
في قلب مشهد الحرب الروسية الأوكرانية، التي تجاوزت عامها الثالث، طفت على السطح عملية نوعية زلزلت المفاهيم العسكرية التقليدية، وضربت عمق الدولة الروسية ليس على الصعيد الجغرافي فحسب، بل على مستوى هيبة الردع وفلسفة الحصانة. لم يكن السلاح المستخدم صاروخًا باليستيًا ولا طائرة مقاتلة شبحية، بل سربًا من الطائرات المسيّرة الصغيرة، خفيفة الوزن، منخفضة التكلفة، مُحمّلة بعقل حسابي يعمل بالخوارزميات.
العملية، التي حيّرت مراكز التقييم العسكري والاستخباراتي، جسدت ما يمكن وصفه بتحوّل نوعي في طبيعة الحرب: من القوة الصلبة إلى الذكاء المرن، ومن الحرب النظامية إلى التخطيط غير المتناظر. ولم تكن الغاية منها تدمير منشآت فحسب، بل إرسال رسالة استراتيجية تقول: “العمق لم يعد محصنًا، والردع التقليدي لم يعد كافيًا”. حين تسقط الحصانة الجغرافية
طوال العقود الماضية، كان يُنظر إلى العمق الروسي بوصفه منطقة خارج دائرة التهديد المباشر. آلاف الكيلومترات من الحدود والثلوج والغابات، إلى جانب شبكة دفاعية هائلة، جعلت قادة الكرملين يعتقدون أن التهديد لا يأتي إلا من السماء أو من الغرب المباشر. لكن هذه العملية أثبتت العكس: الخطر يمكن أن يولد من الداخل، ويُزرع لوجستيًا على مدى أشهر، ثم يضرب في لحظة خاطفة.
استخدام شاحنات تجارية مدنية لإخفاء وحدات إطلاق، وتخزين الطائرات داخل هياكل خشبية قابلة للفتح الذاتي، ثم تشغيلها برمجيًا في توقيت متزامن، مثّل تحديًا مباشرًا لفلسفة الردع الروسي، التي بُنيت على استباق العدو قبل أن يصل إلى النقطة الحرجة.
تكتيك الإرباك: من البساطة إلى الفعالية
الطائرات المستخدمة لم تكن طائرات متقدمة من حيث الصناعة أو القوة النارية، لكنها اعتمدت على معادلة جديدة: الكثرة مقابل الدقة، والتمويه مقابل التكلفة، والتخطيط مقابل العنف. هذه الطائرات، المزوّدة بكاميرات بث مباشر أو مسارات مبرمجة مسبقًا، عملت كأدوات انتحارية لا تُحدث أضرارًا ضخمة لكل وحدة على حدة، لكنها، في تزامنها وتعددها، نجحت في إحداث خلل تشغيلي شامل.
وهو ما جعل كثيرًا من الخبراء يعتبرون الهجوم “عملية هندسية أمنية” قبل أن يكون عملية قتالية، إذ إن اختراق طبقات المراقبة، والتخفي داخل الأراضي الروسية، ثم التنفيذ المتزامن، يدل على قدرة استخبارية وتنسيقية تتجاوز قدرات دولة في حالة حرب تقليدية.
الذكاء الاصطناعي كقائد عمليات
ما يميّز هذا النوع من الهجمات هو أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد داعم للقرار العسكري، بل أصبح في قلب العملية نفسها. الخوارزميات التي تحدد المسارات، وتتجنب الرادارات، وتُحدد توقيتات الانطلاق، بل وتفجر الطائرة عند بلوغ الهدف، أصبحت بديلاً عن الضابط في مركز القيادة.
وهنا يظهر تحول مذهل: ساحة الحرب لم تعد تدار فقط من قبل جنرالات يحملون خرائط، بل من نماذج تعلم آلي تعرف كيف تصل، ومتى تضرب، وكيف تفاجئ.
الأثر الاستراتيجي: خسارة لا تُقدّر بثمن
في التقييم الأولي، أُشير إلى أن العملية استهدفت ما يقرب من 30% من القاذفات القادرة على حمل صواريخ استراتيجية، بينها طرازات نادرة للغاية مثل Tu-160 وTu-95. وتكمن الخطورة هنا ليس في الخسارة المادية، بل في أن هذه الطائرات لم تعد تُنتج بكميات كافية، وبعضها توقفت خطوط تصنيعه، ما يجعل كل ضربة موجّهة نحوها تساوي سنوات من الفجوات الاستراتيجية.
إنها ليست ضربة تكتيكية إذًا، بل ضربة على المستوى الوجودي لمنظومة الردع الروسي، تعيد صياغة مفهوم التوازن في المنطقة، وتفتح المجال لتغيرات جيوسياسية أوسع.
رد الفعل الروسي: بين الغموض والإنكار
المثير للانتباه أن الرد الروسي الرسمي اتسم بالارتباك الواضح في الأيام الأولى، إذ لم تصدر تصريحات محددة توضح حجم الخسائر، بل جاءت البيانات الدفاعية بصيغة غامضة تشير إلى “اندلاع حرائق” و”نشاط لطائرات غير مأهولة” دون تحميل المسؤولية لأوكرانيا بشكل مباشر.
وهذا النمط من الرد يوحي بثلاثة أمور:
- 1. تقدير داخلي بأن كشف حجم الخسائر سيؤثر على معنويات القوات والجبهة الداخلية، خصوصًا في ظل تراكم الضغط الإعلامي والعقوبات الغربية.
- 2. وجود فجوة استخباراتية حقيقية داخل الأجهزة الروسية، إذ لم يتم حتى اللحظة تأكيد كيفية دخول الدرونز أو إطلاقها من الداخل، وهو ما يمثل خرقًا أمنيًا كارثيًا.
- 3. محاولة لكسب الوقت سياسيًا، ريثما يتم تقييم الأضرار واستيعاب المفاجأة ووضع خطة ردع أو انتقام مضاد.
الصمت الصاخب: الدلالة السياسية للإنكار
عدم تبني رواية موحدة من قبل موسكو لا يعكس فقط حالة من الحذر، بل أيضًا حالة من الإنهاك المعلوماتي، إذ يصعب على أي منظومة بيروقراطية ضخمة أن تعترف بفشل على هذا المستوى إلا بعد مراجعات داخلية مطولة. كما أن إظهار هذا النوع من الضعف أمام الجمهور الروسي والعالمي قد يؤدي إلى تداعيات سياسية غير محسوبة على استقرار النظام نفسه.
لذلك، فإن الصمت الروسي الصاخب ليس ضعفًا في الرد، بقدر ما هو اعتراف ضمني بأن المعركة دخلت مرحلة غير مألوفة، لا تصلح فيها أدوات الماضي.
احتمالات الرد: ماذا يمكن لروسيا أن تفعل؟
مع غياب الاعتراف الرسمي، يبقى الرد الروسي مرجحًا على أحد ثلاثة مسارات:
- 1. تصعيد محدود على الجبهة الأوكرانية باستخدام ضربات جوية موسعة لإظهار القوة دون الانجرار إلى توسيع دائرة الحرب.
- 2. ضربات استخباراتية داخل أوكرانيا أو في الدول المجاورة كردّ على الخرق الأمني الذي طال منشآتها الحساسة.
- 3. تطوير منظومة دفاع جديدة داخل العمق الروسي، تعتمد على الذكاء الاصطناعي والرصد المبكر، وهو ما يحتاج إلى وقت واستثمارات ضخمة.
تأثير الهجوم على العقيدة العسكرية الروسية
الضربة كشفت عن عمق الفجوة بين العقيدة العسكرية الروسية القائمة على الحروب التقليدية، وبين الواقع المستجد حيث تقود التكنولوجيا وتكتيكات الاختراق زمام المبادرة. روسيا، التي أنفقت المليارات على تطوير أنظمة دفاعية مثل S-400 وS-500، لم تستطع إيقاف طائرات رخيصة مبرمجة مسبقًا، وهو ما يجعل من مفهوم “القوة” في السياق الروسي اليوم محل إعادة تقييم.
بات من الضروري للقادة العسكريين الروس إعادة التفكير في طبيعة التهديدات القادمة، خصوصًا أن الهجوم أثبت أن الخصم لا يحتاج إلى تفوق عددي أو تقني شامل، بل فقط إلى فكرة ذكية ونقطة ضعف يمكن التسلل منها.
خاتمة: عصر الردع الذكي
ربما لم تكن هذه الضربة بداية النهاية، لكنها بالتأكيد نهاية البدايات. لقد دخلت الحروب مرحلة جديدة عنوانها “الردع الذكي”، حيث لا يُقاس التهديد بحجم الدبابة أو عدد الصواريخ، بل بسرعة الخوارزمية ومرونة التكتيك.
ما حدث في العمق الروسي ليس فقط ضربة لطائرات عسكرية، بل لطريقة التفكير التي كانت تحكم ميزان القوى لعقود. ومَن لا يتكيف مع هذه الحقيقة، لن يخسر الحرب فقط، بل سيفقد القدرة على استيعاب ما تعنيه الحرب أصلًا