السبت ، 14 يونيو 202502:40 م
آراء حرة

محمد الجوهري يكتب: الأونطة الفكرية.. عندما يصير العقل فقاعة فارغة

السبت، 17 مايو 2025 09:25 مساءً
محمد الجوهري يكتب: الأونطة الفكرية.. عندما يصير العقل فقاعة فارغة
محمد الجوهري – كاتب صحفي
15

حين تضج الشاشات بوجوه المتحدثين وتتناثر الكلمات كالشظايا، يُمكنك أن تلمح ذلك البريق الزائف في العيون، وسط ضجيج الثرثرة المعرفية التي تتخم بها منصات التواصل وقاعات المحاضرات، تتجلى إحدى أكثر الظواهر تسللاً إلى بنية وعينا المعاصر: “الأونطة الفكرية”.

لم يعد المفكر هو ذلك المتأمل الذي يغوص في أعماق الوجود باحثاً عن الحقيقة، بل صار “الأونطجي” – ذلك المتفلسف المزيف الذي يرتدي عباءة المثقف كما يرتدي ممثل مسرحي قناعه، متنقلاً بين الأفكار كفراشة متقلبة لا تستقر على زهرة واحدة. إنها مأساة العصر، أن تصبح الأفكار مجرد أزياء نرتديها ونخلعها وفق مقتضيات “الموضة الفكرية”، دون أن تترك أثراً في أعماق وجودنا، ودون أن تُحدث تحولاً في مسار حياتنا.

جذور الظاهرة.. عندما تتشظى الحقيقة

لم تنشأ الأونطة الفكرية من فراغ. لقد مهّد لها مسارٌ فلسفي طويل بدأ مع السفسطائيين القدماء الذين اختزلوا الحقيقة في قدرة المتكلم على الإقناع، ووصل ذروته مع تيارات ما بعد الحداثة التي قوضت الأسُس الصلبة للمعرفة. “الحقيقة ماتت” صرخ نيتشه، وفي جنازتها المهيبة، وُلدت الأونطة الفكرية كوريث شرعي للحقيقة الغائبة.

في عالم تتساوى فيه كل الآراء وتتضاءل فيه قيمة الخبرة والمعرفة العميقة، أصبح من الطبيعي أن تتفشى ظاهرة “الرأي في كل شيء”. يمكنك أن تلتقي بالأونطجي وهو يناقش بثقة مذهلة قضايا الاقتصاد العالمي في الصباح، وفلسفة الوجود ظهراً، وعلوم الفضاء مساءً، متنقلاً بين التخصصات بخفة مدهشة لا يعيقها ثقل المعرفة الحقيقية.

“المعرفة الحقة تجعل الإنسان متواضعاً، والجهل يصنع المتكبرين”، هكذا قال سقراط. لكن الأونطة الفكرية تقلب هذه المعادلة، فالأونطجي يستمد ثقته من جهله المركب، ويتسلح بسطحية معرفته ليخوض في كل المعارك الفكرية، دون أن يدرك أنه كالسابح في البحر بلا دراية بعمق المياه، قد يغرق في أي لحظة.

تشريح الأونطجي.. سيكولوجية الفراغ المعرفي

ما الذي يجعل الإنسان أونطجياً؟ وكيف يتشكل العقل الأونطجي؟

يمكن تشبيه عقل الأونطجي بمرآة تعكس الصور دون أن تحتفظ بها. إنه يلتقط شذرات من هنا وهناك، مقولة من فيلسوف، وفكرة من كاتب، وصرخة من ثائر، ويُعيد تدويرها بطريقة تُوهم السامع أنها نابعة من تأمل عميق وخبرة ممتدة. لكن حين تُمعن النظر، ستجد أن هذه الشذرات لا تشكل نسيجاً متماسكاً، بل هي كقطع فسيفساء متناثرة لا تُكوّن صورة كاملة.

الأونطجي في أعماقه يعاني من “قلق المعنى”. إنه يبحث عن هوية فكرية تمنحه الإحساس بالوجود والقيمة، لكنه يفتقر إلى الصبر والمثابرة والألم المعرفي الضروري لتشكيل هذه الهوية. إنه يشبه من يريد أن يمتلك جسداً رياضياً دون أن يتحمل مشقة التمارين الشاقة، فيلجأ إلى “الستيرويدات الفكرية” – تلك المعرفة السريعة المستعارة التي تنتفخ بها عضلات فكره دون أن تكتسب قوة حقيقية.

يتميز الأونطجي بما يمكن تسميته “النرجسية المعرفية” – ذلك الإعجاب المفرط بالذات المفكرة، المقترن بعدم القدرة على تقبل النقد أو الاعتراف بمحدودية المعرفة. إنه يُحب أن يُسمع أكثر مما يُحب أن يسمع، ويتلذذ بصوت أفكاره المتناثرة أكثر من تلذذه باكتشاف الأفكار العميقة لدى الآخرين.

صناعة الأونطة في العصر الرقمي

لو أراد عصرنا أن ينتج مصنعاً للأونطجية، لما صمم شيئاً أفضل من وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا الفضاء الافتراضي، أصبح الفكر سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب، وصار “اللايك” هو معيار القيمة، والانتشار هو مقياس الصحة. في عالم السرعة هذا، لا مكان للتأمل البطيء والفكر المتأني، بل الغلبة للفكرة الصادمة والرأي المستفز والصياغة الأكثر إثارة.

المنصات الرقمية بطبيعتها تكافئ الظهور على حساب العمق. تشجع على إنتاج “وجبات فكرية سريعة” – تلك الآراء الجاهزة التي يمكن استهلاكها في ثوانٍ معدودة. في هذا السياق، يزدهر الأونطجي كنجم لامع في سماء المعرفة الرقمية، متقناً لفن التلاعب بالكلمات وتغليف الأفكار البسيطة بورق براق من المصطلحات الرنانة.

“الثمن الحقيقي للمعرفة هو الوقت”، هكذا قال أحد الحكماء. لكن في عصر انهيار الثمن، أصبح الجميع قادراً على امتلاك “مظهر المعرفة” دون دفع ثمنها الحقيقي. بضغطة زر، يمكنك أن تقرأ ملخصاً لكتاب فلسفي استغرق تأليفه سنوات، أو تشاهد فيديو مدته خمس دقائق يلخص نظرية علمية استغرق تطويرها عقوداً. هكذا تولد الأونطة، من رحم الاختصار القاتل والتبسيط المخل.

الفراغ الوجودي.. المرض الخفي

يكمن بداخل الأونطة الفكرية مرض وجودي أكثر خطورة: “فقدان المعنى”. لقد حذّرنا فيكتور فرانكل منذ عقود من أن “فراغ المعنى” سيكون وباء القرن الحادي والعشرين، وها نحن نرى تجلياته في كل مكان. الأونطجية ليست سوى محاولة يائسة لملء هذا الفراغ بضجيج معرفي، كمن يملأ منزلاً فارغاً بأثاث رخيص لإخفاء خواء الجدران.

 الأونطجي هو ابن هذا التشظي، يلتقط ما تيسر من أفكار ليبني منها هوية مؤقتة تقيه برد الوحدة الفكرية.

“الفكر الحقيقي يولد من رحم الألم”، كما يقول نيتشه. لكن الأونطجي يخشى هذا الألم، فيستبدل به متعة الظهور العابر واستحسان الجمهور المتقلب.

تجليات الأونطة في ساحات الحياة

تتسلل الأونطة الفكرية إلى كل مجالات الحياة بخفة الظل وثقل التأثير. في المجال الأكاديمي، تتجلى في تلك الأبحاث التي تُنتج لغايات الترقية والتصنيف، دون أن تضيف شيئاً نوعياً للمعرفة الإنسانية. باحثون يدورون في فلك الكم على حساب الكيف، وينتجون أوراقاً علمية تتكدس في أرفف المكتبات دون أن يقرأها أحد أو يستفيد منها أحد.

في المجال الثقافي، تظهر الأونطة في تلك النخبوية المصطنعة التي تحتكر حق التفسير والتأويل، وتستعمل لغة غامضة لإضفاء هالة من القداسة على أفكار قد تكون في جوهرها عادية. مثقفون يتحدثون بلغة لا يفهمها إلا هم، وينظرون باستعلاء إلى من لا ينتمي إلى “ناديهم الفكري الخاص”.

أما في المجال السياسي، فالأونطة أوضح ما تكون في زمن “السياسة الاستعراضية” التي تختزل القضايا المعقدة في شعارات رنانة وجمل حماسية. سياسيون يغيرون مواقفهم وفقاً لاتجاه الريح والمال، ويتبنون أيديولوجيات متناقضة دون أن يرمش لهم جفن، كأنما الأفكار مجرد أدوات للوصول وليست مبادئ تُحتّم عليهم موقفاً ثابتاً.

وحتى في المجال الديني، تسربت الأونطة لتصنع نمطاً من “التدين الشكلي” الذي يهتم بالمظاهر والطقوس أكثر من اهتمامه بجوهر التجربة الروحية. متدينون يحفظون النصوص دون أن يستوعبوا روحها، ويتشددون في الشكليات بينما تغيب عنهم المقاصد الكبرى للأديان.

ثمة بُعد أخلاقي خطير للأونطة الفكرية يُغفَل غالباً. فأن تتبنى فكرة دون اقتناع عميق بها، أو أن تتحدث في موضوع لا تملك فيه معرفة كافية، هو نوع من “الكذب المعرفي” الذي لا يقل خطورة عن الكذب الصريح. 

الأونطجي يرتكب خيانة مزدوجة، خيانة للفكر ذاته حين يختزله في قوالب جاهزة سطحية، وخيانة للمتلقي حين يوهمه بعمق معرفي لا يملكه. خيانة تشبه تلك التي يرتكبها طبيب يصف دواءً دون علم كافٍ بالمرض، أو مهندس يبني جسراً دون دراية بقوانين الفيزياء.

“الاستقامة المعرفية” (Intellectual Integrity) – تلك الفضيلة التي تجعل المرء أميناً في تعامله مع الأفكار – هي النقيض الأخلاقي للأونطة. إنها تعني أن نعترف بحدود معرفتنا، وأن نسعى للحقيقة حتى لو كانت ضد مصالحنا أو قناعاتنا السابقة، وأن نكون مستعدين لتغيير آرائنا في ضوء الأدلة الجديدة.

الأونطجي يُضحي بهذه الفضيلة على مذبح الظهور والقبول، وينزلق في منحدر “النفاق الفكري” الذي يجعله يقول ما لا يؤمن به، ويدافع عما لا يفهمه، ويتبنى من الأفكار ما يناسب مصلحته العابرة لا ما يتسق مع بحثه عن الحقيقة.

تجاوز الأونطة.. نحو وعي فكري أصيل

كيف الخروج من دوامة الأونطة الفكرية التي تبتلع عقولنا وتسطّح وجودنا؟

الخطوة الأولى تكمن في “الوعي بالجھل” – تلك الفضيلة السقراطية التي تجعلنا ندرك حدود معرفتنا. أن تقول “لا أعرف” بصدق أفضل ألف مرة من أن تتظاهر بمعرفة لا تملكها. في عالم يكافئ المتحدث الواثق على حساب المتسائل المتواضع، تصبح الشجاعة الحقيقية في الاعتراف بمحدودية المعرفة، والتخلي عن وهم “المعرفة المطلقة”.

الخطوة الثانية هي إعادة الاعتبار لـ “الصمت الفكري” – تلك المساحة الضرورية للتأمل والمراجعة. في عصر الضجيج المعرفي المستمر، أصبح الصمت فضيلة نادرة. لكن الأفكار العميقة تحتاج إلى خلوة، كما تحتاج البذور إلى الظلام والسكون لتنبت. الأونطة تزدهر في الثرثرة المستمرة، وتذبل في واحات الصمت المتأمل.

الخطوة الثالثة هي بناء “ثقافة الحوار الحقيقي” التي تتجاوز تبادل المواقف والآراء إلى بناء فهم مشترك. الحوار، كما يقول الفيلسوف مارتن بوبر، هو لقاء وجودي بين “أنا” و”أنت”. حين نتحاور بعمق، نتخلى عن فائض الأنا الذي يغذي الأونطة، ونفتح ذواتنا لاستقبال الآخر بكل ما يحمله من اختلاف وتميز.

أخيراً، علينا استعادة العلاقة العضوية بين “الفكر والحياة”. الأفكار ليست حُلياً نتزين بها في المناسبات الفكرية، لكنها بوصلة توجه خطواتنا. الفكر الحقيقي يترك أثره على طريقة عيشنا وتعاملنا مع العالم، ويتجسد في سلوكنا وخياراتنا اليومية. الأونطجي يفصل بين ما يفكر فيه وما يعيشه، أما المفكر الأصيل فيسعى جاهداً ليكون فكره انعكاساً لحياته، وحياته تجسيداً لفكره.

وعي متجدد في زمن الضجيج

في نهاية المطاف، “الأونطة الفكرية” هي تحدٍ وجودي يضعنا أمام مرآة ذواتنا ويجبرنا على مساءلة علاقتنا بالمعرفة والحقيقة. دعوة للتأمل في الفجوة بين ما نقوله وما نعيشه، بين ما ندّعي معرفته وما نعرفه حقاً.

لعل أخطر ما في الأونطة الفكرية أنها تحولنا إلى غرباء عن ذواتنا، منفصلين عن حقيقة وجودنا، نتبنى أفكاراً لا تعبر عنا، ونتحدث بلغة ليست لغتنا، ونعيش حياة ليست حياتنا. إن مواجهة الأونطة هي في جوهرها رحلة بحث عن الأصالة – أصالة الفكر، وأصالة الوجود.

السؤال الذي تطرحه علينا ظاهرة الأونطة ليس “ماذا تعرف؟” بل “كيف تعيش ما تعرف؟” ليس “كم فكرة تحمل في رأسك؟” بل “كم فكرة حوّلت مسار حياتك؟”

تلك هي الأسئلة الحقيقية في زمن السطحية والتشظي، وعلى إجاباتنا عليها يتوقف مصيرنا: هل نظل أسرى الأونطة، نرتدي أقنعة الأفكار دون أن نتجذر فيها، أم نتحرر منها لنبني مشروعاً فكرياً أصيلاً – مشروعاً يعكس حقيقة، ويترك أثراً في العالم من حولنا؟

الخيار لنا، والتاريخ شاهد.