
تلوح في الأفق غيومٌ كثيفة من التوتر تُنذر بعاصفة قد تجتاح شبه القارة الهندية مجدداً، فما بين دويّ المدافع على خط المراقبة في كشمير وتصريحات نارية تتبادلها نيودلهي وإسلام آباد، تقف منطقة جنوب آسيا على حافة بركان قد ينفجر في أية لحظة, الصراع الهندي الباكستاني قصة تمتد جذورها منذ انفصال البلدين عن بعضهما في عام 1947، لكن ما يُميِّز المشهد الحالي هو تعقيداته غير المسبوقة وامتداداته المتشابكة التي تتجاوز الحدود الجغرافية لتصل إلى محاور القوى العالمية.
تتناثر على ضفاف نهر السند وسهول البنجاب وعبر وديان كشمير قصص إنسانية مؤلمة، وتتشكل تحالفات استراتيجية معقدة، وتُرسم خرائط مصالح متضاربة؛ فهل ما نشهده اليوم هو الفصل الأخير من مسلسل الصراع التاريخي أم هو بداية مرحلة جديدة من التحولات الجيوسياسية التي ستعيد تشكيل ملامح المنطقة برمتها؟
جذور الصراع.. من تقسيم دامٍ إلى تنافس نووي
حين انسحبت بريطانيا من شبه القارة الهندية، تركت وراءها جرحاً غائراً لم يندمل بعد, فعملية التقسيم التي أفضت إلى ولادة دولتين متناحرتين في عام 1947، وكتابة فصلاً دموياً شهد هجرة قسرية لأكثر من 15 مليون إنسان ومقتل ما يُقدَّر بمليون شخص في أعمال عنف طائفية، وفي قلب هذا التقسيم المؤلم، بقيت كشمير، تلك الجنة الجبلية الهادئة، ساحة للنزاع المستمر، لتتحول من منطقة ذات أغلبية مسلمة يحكمها مهراجا هندوسي إلى إقليم متنازع عليه يمزقه الصراع.
شهدت العقود اللاحقة ثلاث حروب رئيسية بين البلدين (1947-1948، 1965، 1971)، إضافة إلى أزمات متكررة كادت أن تتحول إلى حروب شاملة، من أزمة كارغيل 1999 إلى التصعيد العسكري عقب هجمات بولواما 2019، وما زاد الوضع خطورة هو امتلاك البلدين للسلاح النووي، مما حوَّل النزاع إلى معادلة دولية معقدة تترقبها القوى العظمى بحذر شديد.
المشهد السياسي الراهن.. خطاب التطرف وأبعاد الصراع
تشهد الهند في ظل حكومة ناريندرا مودي تصاعداً ملحوظاً في خطاب القومية الهندوسية التي تنظر بعين الريبة إلى المسلمين داخل الهند وخارجها، فتعديل قانون الجنسية وإلغاء الوضع الخاص لكشمير في أغسطس 2019، جاءا ليعمقا هوة الخلاف ويزيدا من حدة التوتر، وفي المقابل، تعاني باكستان من عدم استقرار سياسي داخلي.
ولم تعد القضية محصورة بين طرفين، فقد دخلت الصين على خط المواجهة بقوة من خلال شراكتها الاستراتيجية المتنامية مع باكستان، خاصة عبر مشروع “ممر الصين-باكستان الاقتصادي” الذي يمر جزء منه عبر أراضٍ تعتبرها الهند تابعة لها، وبالتوازي، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز تحالفها مع الهند لموازنة النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة، مما يضيف بُعداً دولياً معقداً للصراع.
البعد العسكري والأمني.. رقصة على حافة الهاوية
تتسابق الدولتان في تطوير قدراتهما العسكرية بشكل محموم، ففي حين تُنفق الهند ما يقارب 72.9 مليار دولار سنوياً على الدفاع، تخصص باكستان نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري رغم أزماتها الاقتصادية المتفاقمة، وعلى خط المراقبة في كشمير، يتبادل الجيشان إطلاق النار بشكل شبه يومي، مما يُسفر عن سقوط ضحايا مدنيين وعسكريين.
لكن الصراع العسكري تجاوز النمط التقليدي ليشمل ميادين جديدة، فقد انتقلت المواجهة إلى الفضاء السيبراني من خلال عمليات قرصنة متبادلة، وإلى مجال مكافحة الإرهاب حيث تتهم الهند باكستان بإيواء ودعم جماعات مسلحة تستهدف المصالح الهندية، كما تطورت استراتيجيات القتال لتشمل استخدام الطائرات المسيّرة والعمليات الخاصة عبر الحدود، مما يزيد من احتمالات الاشتباك المسلح غير المقصود.
الإعلام والحرب النفسية.. معركة كسب القلوب والعقول
تحولت وسائل الإعلام في البلدين إلى جبهة أخرى من جبهات الصراع، حيث تتسابق القنوات الإخبارية في نشر روايات متناقضة للأحداث وتضخيم الانتصارات الوهمية وتأجيج المشاعر القومية، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تدور حروب إلكترونية ضارية بين “جيوش” من المتطوعين والحسابات المزيفة التي تنشر معلومات مضللة وتسعى لتشويه صورة الطرف الآخر.
ما يثير القلق أن هذه الحملات الإعلامية تنجح في تأجيج الكراهية وترسيخ الصور النمطية السلبية بين شعبي البلدين، مما يجعل أي محاولة للتقارب أو التفاهم مستقبلاً أمراً بالغ الصعوبة، وفي ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح من الصعب السيطرة على تدفق المعلومات المضللة أو الحد من تأثيرها المدمر.
التكلفة الاقتصادية والبشرية.. ثمن باهظ للعداء المستمر
على المستوى الاقتصادي، يُكبِّد الصراع المستمر البلدين خسائر فادحة، فرغم إمكانية تحقيق تبادل تجاري سنوي قد يصل إلى 30 مليار دولار حسب بعض التقديرات، لا يتجاوز حجم التجارة بين البلدين 2 مليار دولار سنوياً، وذلك بسبب القيود المفروضة والحواجز الجمركية المرتفعة، وتشير دراسات اقتصادية إلى أن إنهاء حالة العداء قد يرفع معدلات النمو في البلدين بنسبة تتراوح بين 1-2% سنوياً.
أما التكلفة البشرية فتتجلى في معاناة الملايين من سكان المناطق الحدودية، خاصة في كشمير، حيث يعيش المدنيون في حالة من الخوف الدائم، فالقيود المفروضة على الحركة، وانتشار نقاط التفتيش، وحظر التجول المتكرر، والانقطاع المستمر لخدمات الإنترنت، كلها عوامل تؤثر سلباً على الحياة اليومية للسكان وتعطل النشاط الاقتصادي، ناهيك عن الآثار النفسية العميقة المترتبة على العيش في منطقة نزاع مزمن، حيث ترتفع معدلات الاكتئاب والقلق والصدمات النفسية، خاصة بين الأطفال والشباب.
المشهد الدولي.. تنافس القوى الكبرى وتعقيدات الوساطة
النزاع الهندي-الباكستاني تحول إلى ساحة لتنافس القوى الكبرى، فالصين التي تخوض هي الأخرى نزاعات حدودية مع الهند، تقف بقوة خلف باكستان وتدعمها اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً، وترى في التحالف معها فرصة لتطويق الهند والحد من نفوذها الإقليمي.
في المقابل، تتجه الولايات المتحدة نحو تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع الهند باعتبارها حليفاً محورياً في استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبين هذين القطبين، تحاول روسيا الحفاظ على علاقات متوازنة مع كلا البلدين، مستفيدة من علاقاتها التاريخية مع الهند ومن رغبتها في توسيع نفوذها في جنوب آسيا.
أما المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة، فقد فشل حتى الآن في إيجاد حل دائم للنزاع، رغم وجود قرارات عديدة لمجلس الأمن تدعو إلى إجراء استفتاء في كشمير لتقرير مصيرها.
سيناريوهات المستقبل.. إلى أين تتجه العلاقات؟
التصعيد المحدود
في ظل استمرار حالة انعدام الثقة وتصاعد الخطاب القومي المتشدد في البلدين، يبدو سيناريو التصعيد المحدود هو الأكثر ترجيحاً في المدى القريب، قد تشهد المنطقة مزيداً من الاشتباكات العسكرية المحدودة على خط المراقبة، وتبادلاً للضربات غير المباشرة عبر أطراف ثالثة، واستمراراً للحرب الإعلامية والاقتصادية، دون أن يتطور الأمر إلى حرب شاملة نظراً للرادع النووي وللضغوط الدولية.
التهدئة المشروطة
تشير بعض المؤشرات إلى إمكانية حدوث انفراجة محدودة في العلاقات، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها البلدان، قد تتضمن هذه التهدئة استئناف الحوار الدبلوماسي واتخاذ تدابير لبناء الثقة مثل تفعيل الاتفاقيات التجارية وتسهيل السفر بين البلدين وتبادل السجناء، لكن دون توقع إحراز تقدم ملموس في القضايا الجوهرية كمسألة كشمير.
التصعيد الشامل
رغم استبعاده نسبياً، إلا أن سيناريو المواجهة الشاملة يظل قائماً، وفي هذه الحالة، قد تندلع مواجهة عسكرية تتصاعد سريعاً وتهدد بتحول النزاع إلى حرب نووية محدودة، مما سيدفع المجتمع الدولي للتدخل بقوة لإنهاء التصعيد.
الحكمة في زمن الغضب
في خضم هذا المشهد المعقد، تبقى الحاجة ماسة إلى تغليب صوت العقل على صيحات التطرف، فالتاريخ المشترك والتراث الثقافي المتشابك والمصالح الاقتصادية المتبادلة، كلها عوامل تدفع نحو ضرورة إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم والتعايش، إن شعبي الهند وباكستان، اللذين عانيا طويلاً من ويلات الصراع، يستحقان مستقبلاً أفضل تسوده التنمية والاستقرار.
إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح اليوم ليس “من سينتصر في هذا الصراع؟”، بل “كيف يمكن إنهاؤه بما يحفظ مصالح الطرفين ويضمن الأمن والكرامة لسكان المنطقة؟”، وهنا تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه النخب الثقافية والاقتصادية والمجتمع المدني في كسر حاجز الجمود وفتح قنوات للحوار بعيداً عن الخطاب الرسمي المتشنج.
لقد آن الأوان لأن تدرك النخب السياسية في البلدين أن الاستمرار في نهج المواجهة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية، وأن الحل الحقيقي يكمن في بناء جسور الثقة وإعادة النظر في المفاهيم التقليدية للأمن القومي، فأمن الهند لا يتحقق على حساب أمن باكستان، والعكس صحيح، بل إن أمن المنطقة بأكملها رهين بقدرة البلدين على تجاوز إرث الماضي والعمل معاً نحو مستقبل يسوده التعاون المشترك.