الأحد، 18 مايو 202507:09 م

اللواء طارق جمعة يكتب: التهديد الجهادي في إفريقيا.. حالة بوركينا فاسو في مؤشر الإرهاب العالمي 2024

آراء حرة
اللواء طارق جمعة يكتب: التهديد الجهادي في إفريقيا.. حالة بوركينا فاسو في مؤشر الإرهاب العالمي 2024
لواء دكتور طارق جمعة – باحث فى مجال الحركات الاسلامية والذكاء الاصطناعى
15
الثلاثاء، 22 أبريل 2025 04:15 مساءً

في مؤشر غير مسبوق من نوعه، تصدرت بوركينا فاسو مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2024، متجاوزة دولًا لطالما تصدرت المشهد مثل العراق وأفغانستان هذا التصدر الذي يحمل في طياته معانٍ أكثر تعقيدًا من مجرد ترتيب إحصائي، يعكس تحوّل هذه الدولة الفقيرة في غرب إفريقيا إلى ساحة مركزية في مشهد العنف الجهادي العابر للحدود، ويطرح تساؤلات حرجة حول أسباب هذا التحول، وسبل احتوائه، واحتمالات امتداده إلى دول الجوار من الهامش إلى قلب الأزمة .
بوركينا فاسو، الدولة الحبيسة التي لا تمتلك سواحل، والتي لطالما وُصفت بأنها من أكثر بلدان غرب إفريقيا استقرارًا حتى عام 2014، أصبحت اليوم بؤرة للعنف والتطرف. وقد أشار تقرير “معهد الاقتصاد والسلام” إلى أن البلاد سجلت أكثر من 2000 قتيل خلال عام واحد فقط، موزعين على 258 هجومًا إرهابيًا، أي ما يعادل نحو ربع ضحايا الإرهاب في العالم خلال 2023.

هذا الانفجار في وتيرة العنف ليس نتيجة حدث مفاجئ، بل نتيجة تراكمات سياسية وأمنية واجتماعية، بدأت منذ تسرب الجماعات الجهادية من مالي إلى الشمال الشرقي من البلاد، ووجدت في التهميش وضعف الدولة أرضًا خصبة للانتشار. لكن ما شهده العام الماضي تحديدًا كان نوعيًا تضاعف عدد القتلى في كل هجوم، واتساع رقعة العمليات إلى نصف أراضي الدولة تقريبًا، بما في ذلك مناطق كانت آمنة نسبيًا كالهضبة الوسطى والغرب.

خريطة الجماعات الجهادية المسيطرة ، تتنازع على أراضي بوركينا فاسو اليوم جماعتان رئيسيتان :-

جماعة نصرة الإسلام و المسلمين وهي فرع القاعدة في منطقة الساحل، تنشط بشكل كبير في مقاطعات شمال البلاد، وقد وسّعت حضورها مؤخرًا إلى الشرق الأوسط والغربي، خصوصًا في مقاطعات كولبيلوغو وبولغو.

تتبع الجماعة أسلوبًا مركبًا: تقديم الحماية للسكان المحليين، فرض الضرائب (الزكاة)، منع التعليم الحكومي، مع تقديم بدائل دينية وخدماتية، مما يجعلها في نظر بعض القرى خيارًا أفضل من الدولة الغائبة. كما تعتمد على خطاب محلي يتقاطع مع المظالم العرقية، خاصة في مناطق الفولاني، لتأمين التجنيد والتأييد .

تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبري وهو أحد أفرع تنظيم “داعش”، وقد ثبت وجوده بشكل قوي في الشرق البوركيني (مقاطعات غورما وتابوا وكومبيينغا)، كما يسيطر على أجزاء من الطريق الرابط بين بوركينا فاسو والنيجر يتسم هذا التنظيم بدمويته الشديدة مقارنة بجماعة نصرة الإسلام، وينتهج تكتيكات المجازر الجماعية والتفجيرات واسعة النطاق اللافت أن هذين التنظيمين يخوضان أحيانًا معارك بينية، مما يضاعف من معاناة المدنيين، ويزيد من تعقيد المشهد الأمني فالجيش البوركيني أصبح يقاتل على جبهات متعددة، ليس فقط ضد التنظيمات ، بل أحيانًا داخل معسكراته المتفككة بسبب الانقلابات والصراعات الداخلية.

 الانهيار المؤسسي انقلاب وراء انقلاب

أحد العوامل الرئيسية التي تفسر هذا التصاعد في وتيرة الإرهاب هو الانهيار السياسي المتكرر في البلاد فمنذ يناير 2022، شهدت بوركينا فاسو انقلابين عسكريين في أقل من تسعة أشهر. أُطيح بالرئيس روك مارك كريستيان كابوري بسبب فشله في وقف تدهور الوضع الأمني، ثم أُطيح بخلفه بول هنري سانداوغو داميبا على يد الضابط الشاب إبراهيم تراوري في سبتمبر من نفس العام .

ورغم وعود المجلس العسكري الجديد بتحقيق الأمن “في غضون أشهر”، إلا أن الواقع أظهر عكس ذلك تمامًا لم تنجح الدولة في استعادة السيطرة على المناطق المتمردة، بل زادت حدة الهجمات، واضطر أكثر من 2.1 مليون شخص للنزوح الداخلي بسبب العمليات المسلحة وانعدام الأمان، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

كما أن تحالف المجلس العسكري مع جهات خارجية مثيرة للجدل – وأبرزها مجموعة فاغنر الروسية – لم يسفر عن نتائج ميدانية واضحة بل على العكس، تصاعدت الانتهاكات بحق المدنيين على يد “المتطوعين” الذين تم تجنيدهم عشوائيًا، في إطار ما يُعرف بـ”قوات الدفاع عن الوطن”، وهي ميليشيات غير نظامية باتت تمارس سلطتها بالقوة في مناطق عديدة.

فجوة التنمية والتهميش العرقي

العمق الحقيقي لأزمة بوركينا فاسو لا يكمن فقط في السلاح والجماعات، بل في فشل النموذج التنموي للدولة لعقود فالمناطق التي تشهد أكبر قدر من العنف هي نفسها المناطق التي عانت من التهميش الحكومي وغياب البنية التحتية والخدمات، وخصوصًا في الشمال الشرقي حيث تعيش أقليات كالفولاني والطوارق.

وقد استفادت الجماعات الجهادية من هذا الواقع، فتبنت خطاب الحماية والعدالة، وصورت الدولة كقوة قمعية تخدم نخبًا قبلية ومناطق معينة دون غيرها وعبر استغلال هذا الشعور بالحرمان، تمكنت من استقطاب الشباب، وتجنيدهم إما عبر الإقناع أو بالتهديد، ليصبحوا جزءًا من منظومة عنف تتكاثر كالفطر في البيئة الهشة.

 التداعيات الإقليمية: ساحل بلا حدود

إن ما يحدث في بوركينا فاسو لا يهدد حدودها فقط، بل يهدد استقرار منطقة الساحل بأكملها. فمع انسحاب فرنسا من الساحل، وتفكك تحالف “جي5 الساحل” بعد انسحاب بوركينا ومالي والنيجر، تراجعت بشدة قدرة الدول على التنسيق الأمني.

الدول المجاورة كـبنين وتوغو وساحل العاج بدأت تشهد بالفعل تسرب الهجمات إلى أراضيها، في ظل غياب جهاز إقليمي فعال قادر على التعامل مع جماعات تتنقل بسهولة عبر حدود مفتوحة، وتحظى بدعم شبكات تهريب عابرة للدول.

وتكمن الخطورة في أن هذا النموذج قد يتكرر: دولة تنهار تدريجيًا من الداخل، حتى تصبح عاجزة عن تأمين أراضيها، فتتحول إلى ساحة جديدة لصراعات بالوكالة، في ظل تراجع الالتزام الدولي بمناطق الساحل لصالح أولويات أخرى مثل أوكرانيا وتايوان.

ماذا بعد؟
أمام هذا الواقع القاتم، تبدو الحاجة إلى إعادة تعريف مقاربة مكافحة الإرهاب في بوركينا فاسو والمنطقة بأسرها. الحل العسكري وحده أثبت محدوديته.

لا بد من حلول متكاملة تشمل:

استعادة الدولة لمشروعيتها الاجتماعية، من خلال دعم التعليم، الصحة، والحوكمة المحلية في المناطق المهمشة.
بناء أجهزة أمنية غير مسيّسة، تراعي التوازنات العرقية ولا تُوظف في الصراعات الداخلية.
الانفتاح على مبادرات الحوار المجتمعي في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات، دون الوقوع في فخ “شرعنتها“.
إطلاق برامج تأهيل وتفكيك شبكات التجنيد التي تستهدف المراهقين والشباب، عبر وسائل إعلامية وخطاب ديني معتدل.

وفي الختام، فإن تصدر بوركينا فاسو لمؤشر الإرهاب العالمي 2024 ليس مجرد مؤشر على تصاعد التهديد، بل تذكير بأن العالم لا يستطيع أن يشيح بنظره عن منطقة الساحل، فالأزمات التي تُترك لتتفاقم في الظل، سرعان ما تفرض نفسها على العناوين الأولى، وبكلفة إنسانية وسياسية واقتصادية باهظة .