
في زيارة رسمية تستغرق يومين، حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفًا على القاهرة يومي 6 و7 أبريل 2025، في توقيت إقليمي حرج، لتؤكد الزيارة مجددًا أن العلاقات المصرية الفرنسية باتت واحدة من أكثر الشراكات الأوروبية ثباتًا في الشرق الأوسط. لقاء الرئيس ماكرون بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يكن مجرد حدث بروتوكولي، بل رسالة استراتيجية تتجاوز المصالح الثنائية، لتصل إلى صياغة مواقف مشتركة إزاء أزمات المنطقة المتفجرة، وعلى رأسها الحرب في غزة، والأمن في البحر الأحمر، والاستقرار الإقليمي الذي بات على المحك.
أبرز ما ميز الزيارة هو البُعد الاقتصادي؛ إذ شهدت توقيع 22 اتفاقية ومذكرة تفاهم، منها 10 اتفاقيات بين الحكومتين المصرية والفرنسية، و12 اتفاقية بين شركات ومؤسسات اقتصادية من الجانبين، شملت مجالات الصحة، النقل، المياه، التعليم، والطاقة المتجددة. وقد أعلنت الوكالة الفرنسية للتنمية عن تقديم حزمة دعم بقيمة 260 مليون يورو (ما يعادل 284.5 مليون دولار)، من بينها قروض ميسّرة ومنح فنية، تُخصص لمشروعات البنية التحتية، خاصة النقل العام والكهرباء والمياه في مصر، وهي قطاعات استراتيجية تعاني من ضغوط اقتصادية كبيرة في ظل تحديات الديون والتضخم.
وتأتي هذه الشراكة في سياق اقتصادي نشط؛ فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وفرنسا خلال عام 2024 نحو 2.9 مليار دولار، وفق بيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية، بزيادة ملحوظة عن الأعوام السابقة. وتنوعت الصادرات المصرية لفرنسا بين الأسمدة والأجهزة الكهربائية والمنتجات الزراعية، في حين استوردت مصر من فرنسا منتجات صيدلانية بقيمة 302 مليون دولار، إلى جانب واردات من الحبوب بقيمة 183 مليون دولار، مما يعكس تنوع العلاقات التجارية واتساع نطاقها.
لكن الأبعاد السياسية للزيارة لا تقل أهمية. إذ ناقش الرئيسان الوضع في قطاع غزة بشكل موسّع، وأكدا رفضهما لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين، ودعمهما التام لإعادة التهدئة ووقف إطلاق النار. كما شدد ماكرون والسيسي على ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية للقطاع دون عوائق، وتفعيل الدور الدولي لإحياء مسار التسوية السياسية. وقد بدا واضحًا أن فرنسا تعوّل على مصر ليس فقط كوسيط ميداني فاعل، بل كركيزة استقرار تعكس توازنًا عقلانيًا في مقاربة الأزمات الإقليمية، في ظل حالة الاستقطاب الحاد التي تضرب المنطقة.
وتكتسب هذه الزيارة أهمية إضافية حين تُقرأ في سياق التراجع التدريجي للنفوذ الفرنسي في أفريقيا جنوب الصحراء خلال السنوات الأخيرة، بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وصعود قوى دولية منافسة مثل روسيا وتركيا والصين. في هذا السياق، تمثل القاهرة نقطة ارتكاز جديدة لفرنسا، تسعى من خلالها باريس لإعادة التوازن لنفوذها في جنوب المتوسط والقرن الأفريقي، اعتمادًا على شراكتها مع مصر، التي باتت فاعلًا إقليميًا يتعامل مع التوازنات المتغيرة بكفاءة سياسية واقتصادية واضحة.
أما من جهة مصر، فالزيارة تمثل فرصة مزدوجة؛ فهي تفتح أبوابًا جديدة أمام الاستثمارات الأوروبية، وتؤكد قدرة الدولة على جذب دعم دولي نوعي، رغم التحديات المالية الحادة التي تمر بها، وتُعزز في الوقت ذاته موقعها التفاوضي في ملفات كبرى مثل الأمن البحري، الهجرة غير النظامية، وإعادة الإعمار في غزة، وهي ملفات تمس مصالح أوروبا كما تمس استقرار مصر.
زيارة ماكرون لمصر لم تأتِ في فراغ، بل جاءت استكمالًا لمسار استراتيجي ممتد. فمنذ عام 2017، شهدت العلاقات بين البلدين نموًا لافتًا، شمل التعاون العسكري وصفقات السلاح، إلى جانب التعليم والثقافة والطاقة. كما أن فرنسا تُعد من بين أكبر المستثمرين الأوروبيين في السوق المصري، ويعمل بها أكثر من 165 شركة فرنسية، باستثمارات تجاوزت مليار يورو خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وفق بيانات الوكالة الفرنسية للتنمية.
ومع احتدام التحديات الإقليمية، تظهر القاهرة مجددًا بوصفها مركز توازن لا غنى عنه. زيارة ماكرون ليست مجرد محطة دبلوماسية، بل تعبير عن إدراك أوروبي متجدد بأن استقرار الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه دون مصر. والأخيرة، بدورها، تدير علاقتها مع الشركاء الأوروبيين من موقع المبادرة، لا من موقع التلقي، ما يمنحها وزنًا تفاوضيًا يزداد ثقله كلما تعقّدت المشهدية الإقليمية.
إن زيارة ماكرون للقاهرة تكرّس حقيقة جيوسياسية لم يعد ممكنًا تجاهلها او العمل ضدها ، أن مصر لم تعد فقط دولة محورية في العالم العربي، بل هي وسيط إقليمي فاعل، وشريك أوروبي ضروري، وضامن للاستقرار في المنطقة في زمن التقلّبات الكبرى.