
إن أخطر ما يفرزه “الساسة الجائلون” أنهم يعتادون على الحضور بلا مسؤولية، والظهور بلا التزام، والانتقال من منصة إلى أخرى وكأن السياسة مجرد “بضاعة تُعرض” لا “رسالة تُؤدى”.
والمجتمعات التي سمحت بتمدّد هؤلاء، دفعت ثمنًا مضاعفًا: فوضى في الوعي، وفجوة بين المواطن والسياسة، وضياع البوصلة الوطنية.
وعلى عكس ما قد يظنه البعض، فإن ضرر “الساسة الجائلين” لا يقف عند حدود أشخاصهم، بل يمتد إلى صورة السياسة نفسها. إذ يتحول العمل العام من رسالة شرف ومسؤولية، إلى ساحة استعراض وتلميع، مما يدفع الناس إلى العزوف وفقدان الثقة.
المجتمع الذي يريد حماية وعيه، لا بد أن يتعلم كيف يميّز بين السياسي الذي يملك رؤية ومشروعًا، وبين من يحترف التنقل بين المقاعد بحثًا عن لقب أو وجاهة. الأول قد يختلف معه الناس، لكنهم يحترمون وضوحه وثباته. أما الثاني، فسرعان ما يسقط من الذاكرة لأنه لم يترك أثرًا إلا في صورٍ عابرة وخطاباتٍ فارغة.
ولعل جوهر المشكلة أن هؤلاء الساسة يظنون أن الحضور الدائم يعادل الفاعلية، وأن الظهور المتكرر يغني عن الإنجاز. بينما الحقيقة أن السياسة لا تُقاس بكمّ الكلمات ولا بعدد الصور، بل بما يتركه صاحبها من أثر ملموس في حياة الناس.
إن مواجهة ظاهرة “الساسة الجائلين” تبدأ من إعادة بناء أدوات الوعي العام. المواطن بحاجة إلى أن يفرّق بين الأداء الحقيقي والاستعراض، وبين العمل المنتج والسياسة الموسمية التي لا تملك جذورًا.
كما أن الإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية عليهم دور محوري في كشف التناقضات وطرح الأسئلة التي تُجبر السياسي على تقديم إنجاز لا مجرد خطاب.
لكن المسؤولية لا تقع على النخب وحدها؛ فالمجتمع نفسه مطالب بأن يشارك بوعي أكبر، لا أن يكتفي بالانتقاد من بعيد. المشاركة الواعية — بالتصويت، بالنقاش، بالمحاسبة — هي السدّ الحقيقي أمام تمدد “الساسة الجائلين”.
فحين يجد المواطن أن صوته قادر على صناعة الفارق، وحين يشعر أن محاسبته للسياسي تؤدي إلى نتيجة، يختفي هؤلاء الطارئون تلقائيًا.
وأخيراً
إن خط الدفاع الأول عن أي أمة هو وعيها الجمعي. والساسة الذين لا يحملون مشروعًا سوى الانتقال بين المنابر، ليسوا إلا انعكاسًا لضعف هذا الوعي. أما بناء السياسة على أسس المسؤولية والإنجاز، فيبدأ من وعي الناس بحقهم في السؤال، وقدرتهم على التمييز، وإصرارهم على المشاركة.