
تقرير :محمد أبوزيد
في خطوة تمثل تحوّلًا نوعيًّا في السياسة المالية المصرية، تمضي الحكومة قدمًا نحو تنفيذ صفقة سيادية عملاقة في منطقة رأس شقير على ساحل البحر الأحمر، تقدر قيمتها الإجمالية بتريليون جنيه مصري، دون اللجوء إلى بيع شبر واحد من أراضي الدولة.
هذه الصفقة، التي تعتمد على نظام الصكوك الإسلامية السيادية، تمثل معادلة دقيقة بين الحفاظ على السيادة الوطنية وتوفير حلول مبتكرة لأزمة الدين العام ،خاصة الدين الخارجي الذي اقترب من ال170 مليار دولار وتراجع مؤخرا ل152 مليار دولار.
تسعى مصر من خلال تلك الصفقة إلى مشاركة خليجية واسعة، تشمل صناديق سيادية من السعودية والإمارات وربما قطر والكويت.
رأس شقير: كنز اقتصادي بكر
تقع منطقة رأس شقير شمال مدينة الغردقة بمحافظة البحر الأحمر، وتمتد على مساحة تتجاوز 174 مليون متر مربع (أكثر من 41 ألف فدان). وتُعد من أكثر المناطق الاستراتيجية ثراءً في مصر، بما تمتلكه من واجهات بحرية فريدة ومقومات طبيعية وسياحية واقتصادية تجعلها مؤهلة لاستيعاب استثمارات بمليارات الدولارات في قطاعات السياحة والطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية والصناعة الخفيفة.
الصكوك بدلًا من البيع.. استثمار لا تفريط
بموجب القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس السيسي قبل أيام ويحمل رقم 299 لسنة 2025، تم نقل ملكية الأرض من جهاز الدولة إلى وزارة المالية كحق انتفاع فقط، وليس بغرض البيع أو نقل الملكية.
هذا القرار يمكّن الحكومة من استخدام الأراضي كضمانة لإصدار صكوك سيادية متوافقة مع الشريعة الإسلامية، وهو نموذج تمويلي “حلال” يحترم الضوابط الشرعية ويمنح المستثمرين—لا سيما من الخليج—ثقة أكبر في الدخول إلى السوق المصرية.
ووفقًا لما أعلنته وزارة المالية، فإن هذه الصكوك ستُستخدم لإعادة هيكلة الدين العام، وتخفيف الضغط عن أدوات الدين التقليدية قصيرة الأجل، والتي تلتهم ما يزيد على 50% من الموازنة العامة سنويًا على هيئة أقساط وفوائد.
من أبوظبي إلى رأس شقير.. النموذج يتكرر
تشير مصادر حكومية في أكثر من تصريح صحفي ظهر خلال الساعات الماضية إلى أن الصفقة الجديدة مستوحاة من اتفاقية رأس الحكمة مع صندوق أبوظبي السيادي “ADQ”، لكن مع فارق جوهري: الأرض في رأس شقير لن تباع ، بل ستدار عبر شراكات استثمارية قائمة على الصكوك، بما يضمن ملكية الدولة الكاملة ويحمي أصولها من التفريط.
ويتوقع أن تشهد الصفقة دخول صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وجهاز أبوظبي للاستثمار، إلى جانب جهات سيادية خليجية أخرى، في مشروعات مشتركة على الأرض، تشمل إنشاء مجمعات سياحية عملاقة، مناطق لوجستية متطورة، ومشروعات للطاقة النظيفة مثل الهيدروجين الأخضر وتحلية المياه.
تريليون جنيه.. في مواجهة الدين العام
وفقًا للتقديرات الأولية، يُنتظر أن توفر الصفقة تمويلًا مباشرًا وغير مباشر يعادل تريليون جنيه مصري خلال السنوات الخمس المقبلة، منها 40 مليار دولار خلال العام المقبل و50 مليار دولار خلال العام المالي 2028. 2029
سداد واستبدال مديونيات قائمة بمعدلات فائدة مرتفعة.
تمويل مشروعات البنية التحتية والخدمات العامة.
دعم برامج الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم ضمن خطة 2025/2026.
من الواضح أن الحكومة تسعى إلى إرسال رسالة طمأنة مزدوجة: للمستثمرين الخليجيين والدوليين بأن مصر مفتوحة لاستثمارات طويلة الأجل ومستقرة عبر أدوات تمويل متوافقة مع الشريعة؛ وللرأي العام الداخلي بأن السيادة الوطنية محفوظة، وأن الدولة لا تفرط في أصولها.
كما أوضحت وزارة المالية أن الأراضي المستخدمة كضمانات ستبقى بالكامل مملوكة للدولة، ولن تنتقل ملكيتها لأي جهة محلية أو أجنبية. ما يتم فقط هو منح “حق انتفاع مؤقت” لفترة محددة بموجب القانون رقم 138 لسنة 2021 الخاص بالصكوك السيادية، وهو ما يجعل هذه الأداة فريدة في تحقيق المعادلة الصعبة: جذب تمويل خارجي دون بيع الأصول.
من الصكوك المحلية إلى الدولية
الصفقة لا تقتصر على الصكوك المحلية فقط، بل تشمل إصدار صكوك دولية بنحو مليار دولار خلال الفترة المقبلة، ضمن برنامج تمويلي قيمته الإجمالية 4 مليارات دولار، تم تنفيذ 3 مليارات منها بالفعل. ومن المتوقع أن تجتذب الصكوك الدولية إقبالًا قويًا، خاصة في ظل التجربة الناجحة التي شهدها إصدار فبراير 2023 الذي بلغ 1.5 مليار دولار، وتمت تغطيته أربع مرات.
مصر تفتح بوابة استثمارية جديدة
إن صفقة رأس شقير تمثل بوابة استراتيجية لموجة استثمارات جديدة، لا تقتصر فقط على التمويل، بل تتجه إلى خلق شراكات إنتاجية طويلة المدى مع دول الخليج، بعيدًا عن نموذج الودائع قصيرة الأجل. فبدلًا من أن تظل الأموال الخليجية مجمدة في البنك المركزي على شكل ودائع، تسعى الحكومة إلى تحويلها إلى استثمارات حقيقية في الاقتصاد المصري، ضمن قطاعات إنتاجية واعدة.
قطر والكويت
ووفقا للمعلومات التي ذكرها موقع العربية نت فإنه من المتوقع أن تشارك الكويت في هذه الصفقة عبر الوديعة الكويتية في البنك المركزي والمقدرة ب4 مليار دولار ومستحق نصفها في نهاية هذا العام ،كما من المقرر أن تشارك قطر، حيث وعدت الحكومة القطرية باستثمار ما يقارب من 7 مليار دولار في مصر خلال الفترة المقبلة.
رأس شقير ليست مجرد قطعة أرض على البحر الأحمر، بل قد تتحول إلى نموذج جديد في إدارة الأصول السيادية، يمنح مصر فرصة حقيقية للخروج من نفق الديون، ويعيد رسم خريطة الاستثمارات الخليجية في البلاد.