
ما بين طواف وسعي وتهليل، وبين دعوات الحجاج ودموعهم على صعيد عرفات، كانت الكعبة الشريفة في بعض الأعوام ساحة لمعارك دامية، وأحداث مأساوية نُقشت في سجل أكثر مواسم الحج دموية في التاريخ المعاصر. ففي بيت الله الحرام، حيث يُفترض أن يكون السلام سيد المكان، سالت الدماء، وارتفعت أصوات الرصاص، واختلط التكبير بالأنين، وسُجلت مآسٍ لن تُمحى من ذاكرة العالم الإسلامي.
من تمرد داخلي بالسلاح في قلب الحرم، إلى مواجهات دبلوماسية تحوّلت إلى مجازر، تعالَ نغوص في أرشيف الدم الذي لطخ رداء الحج الأبيض، في سنوات عصفت فيها السياسة والطائفية والتمرد، بأقدس بقاع الأرض.

قصة اقتحام الحرم المكي عام 1979
في الأول من محرم لعام 1400 هجريًا، الموافق 20 نوفمبر 1979، كانت مكة تتهيأ ليوم جديد، حين فوجئ المصلون بعد صلاة الفجر بأصوات غريبة، صياح وهتافات، ثم إطلاق نار داخل أروقة الحرم. لم يكن أحد يتخيل أن مجموعة مسلحة ستحمل السلاح إلى قلب الكعبة، وتعلن من داخلها “ظهور المهدي المنتظر”!
من هم المهاجمون؟
قائدهم كان جهيمان العتيبي، الرجل الذي تحول من شرطي بالحرس الوطني إلى قائد لتنظيم سلفي متطرف يُعرف باسم “الجهيمانية”، اعتبر أن العالم الإسلامي قد فسد، وأن الكعبة هي المكان الأنسب لإعلان الثورة والبيعة للمهدي المزعوم، محمد بن عبد الله القحطاني، صهر جهيمان.
تفاصيل الاقتحام
بأسلحة تم تهريبها في توابيت قيل إنها لجنائز الحجاج، تسللت المجموعة التي ضمت أكثر من 200 مسلح إلى باحات الحرم، وفرضوا سيطرتهم على المكان بالكامل، واحتجزوا آلاف الحجاج رهائن، ومنعوا الصلاة، وقطعوا مكبرات الصوت.
رد الفعل الرسمي
في البداية، حاولت القوات السعودية التعامل مع الحدث بحذر، نظرًا لحرمة المكان. لكن مع ازدياد عدد القتلى من الحجاج الأبرياء، وبقاء الرهائن دون طعام أو ماء، استُدعي الحرس الوطني والقوات الخاصة، بل واستعانت السعودية بفرقة كوماندوز فرنسية (بتنسيق سري) لتقديم خطط اقتحام لا تُدنّس الحرم.
النهاية
بعد 15 يومًا من الحصار والاشتباكات المتقطعة، استُخدم الغاز لتخدير المسلحين، ودارت معركة ضارية داخل أروقة الحرم، انتهت بمقتل 127 من القوات السعودية، و117 مسلحًا، إضافة إلى أكثر من 250 حاجًا قُتلوا خلال المعارك، وجرح الآلاف.
جهيمان العتيبي أُلقي القبض عليه حيًا، وأُعدم بعد أسابيع، لكن دماء ذلك الموسم لم تُمحَ من ذاكرة الحج أبدًا.
ثانيًا: مجزرة الحجاج الإيرانيين في مكة – 1987
شهد موسم الحج عام 1987 واحدة من أكثر الحوادث دموية في تاريخ السعودية الحديث، عندما تحوّلت مظاهرة سياسية نظمها حجاج إيرانيون إلى صدامات عنيفة مع قوات الأمن السعودية، على خلفية التوتر بين إيران والسعودية بعد الثورة الخمينية عام 1979، وسعي طهران لتصدير الثورة إلى الدول الإسلامية.
ما الذي حدث؟
في يوم 31 يوليو 1987، خرج حوالي 150 ألف حاج إيراني في مظاهرة بشوارع مكة، تحت شعار “البراءة من المشركين”، وهتفوا بشعارات ضد أمريكا وإسرائيل، ورفعوا صورًا للخميني، ورددوا هتافات ضد السعودية.
قابلت قوات الأمن المظاهرة بمحاولة التفريق، وسرعان ما تطورت الأمور إلى صدام مباشر، استخدمت فيه الهراوات والغاز المسيل للدموع، قبل أن يتحول الموقف إلى إطلاق نار.
بحسب الإحصائيات الرسمية السعودية، سقط 402 قتيل، من بينهم 275 إيرانيًا، و85 سعوديًا، و42 حاجًا من جنسيات أخرى، بينما زعمت إيران أن عدد القتلى تجاوز الألف. وجرح الآلاف، وتكدست الجثث في الطرقات، وتحول المكان من بيت الله إلى ساحة حرب طائفية.
قطعت إيران الحج عامًا بعد المجزرة، وازدادت التوترات بين البلدين. واعتبرت طهران أن ما حدث “جريمة كبرى”، بينما أكدت السعودية ما حدث بأنه كان “حماية لأمن الحجاج من الفوضى والاختراق السياسي”.
الحج، في جوهره، عبادة جماعية تدعو للسلام والتسامح، لكن التقاء السياسة بالطائفية بالتشدد أحيانًا، حوّل مواسم حج إلى ساحات للصراع الدموي داخل أكثر أماكن الأرض قدسية. ما حدث في 1979 و1987 و ليس فقط مآسي بشرية، بل دروس قاسية في كيف يمكن للكعبة أن تُستباح باسم الدين، أو الطائفية، أو الجنون.