
بينما كانت الإسكندرية تستعد لأمسيات مايو الدافئة ونسماتها البحرية المعتادة، باغتتها الطبيعة بعاصفة شتوية الطابع في قلب الصيف. برقٌ، رعدٌ، أمطارٌ غزيرة، وثلوج تساقطت في مشهد أقرب للخيال العلمي منه إلى توقعات الأرصاد التقليدية. عاصفة ليلة 31 مايو 2025 دخلت التاريخ كأعنف تقلب جوي في المدينة منذ عقود، وطرحت تساؤلات ملحة: ماذا يحدث لمناخ الإسكندرية؟ ولماذا تحديداً هي من تدفع ثمن هذا الاضطراب الجوي أولاً؟
فيما يلي تحليل علمي لهذه الظاهرة، وتفكيك لأسبابها الخمسة الأكثر ترجيحًا:
1. الاحترار العالمي.. مفارقة البرودة
قد يبدو مناقضًا للبديهة أن “الاحتباس الحراري” يؤدي إلى تساقط الثلوج، لكن الحقيقة العلمية أن الاحترار الكوكبي لا يعني دفئًا دائمًا، بل اضطرابًا شديدًا في النظم المناخية. فعندما تزداد حرارة الأرض، تتغير أنماط الرياح والتيارات البحرية، ويتزايد تبخر المياه في المحيطات، مما يضاعف تكوين السحب والعواصف. وعند توافر كتلة هوائية باردة في طبقات الجو العليا – كما حدث فوق المتوسط – يتحول هذا البخار إلى ثلج حتى في أشهر الصيف.
2. تغيرات مسار التيار النفاث
التيار النفاث (Jet Stream) هو تيار هوائي قوي في طبقات الجو العليا ينظم الطقس حول الكوكب. اختلال مساره نتيجة التغير المناخي قد يتسبب في توغل كتل هوائية قطبية نحو الجنوب. هذا ما حدث في الإسكندرية، حيث انحدرت كتلة هوائية باردة من شمال أوروبا لتصطدم برطوبة المتوسط، مُشكِّلة عاصفة متكاملة العناصر: برق، رعد، أمطار، وثلوج.
3. ظاهرة “اللانينيا” والتذبذب القطبي
في السنوات الأخيرة، شهد العالم تكراراً لحالة “اللانينيا” في المحيط الهادئ، والتي تؤثر بشكل غير مباشر على طقس البحر المتوسط. كذلك، فإن “التذبذب القطبي” السلبي سمح بهبوط الرياح القطبية إلى مناطق غير معتادة. الإسكندرية كانت من بين الأهداف غير المتوقعة لهذه التغيرات.
4. تزايد الكتل الخرسانية وتراجع المساحات الخضراء
الإسكندرية الحديثة تختلف عن ماضيها في البنية الحضرية. مع توسعها العمراني وزحف الأسمنت على حساب الحدائق والمساحات المفتوحة، تغيرت القدرة الطبيعية للمدينة على امتصاص التقلبات الحرارية. ما يجعلها أكثر عرضة لاختناقات مناخية سريعة ومباغتة، تعجز البنية التحتية الحالية عن امتصاصها.
5. موقع الإسكندرية الجغرافي الفريد
تقع المدينة على تماس مباشر بين البحر المتوسط والصحراء الغربية، وهي منطقة انتقالية شديدة الحساسية لأي تغييرات جوية. بالإضافة إلى كونها منخفضًا طبوغرافيًا نسبيًا، ما يجعلها بؤرة لتلاقي التيارات البحرية الدافئة مع الهواء البارد الآتي من الشمال، فتكون النتيجة أحيانًا “عاصفة خارج التوقيت”.
هل يمكن أن ينفصل مناخ الإسكندرية عن مناخ مصر؟
الإجابة نعم… ولكن جزئيًا. مناخ مصر في المجمل صحراوي قاري، بينما تتمتع الإسكندرية بمناخ متوسطي مميز. هذا الفارق يُكسب المدينة طابعًا خاصًا من حيث معدل الأمطار وطبيعة الرياح، لكنه لا يعزلها عن التغيرات الإقليمية والدولية. بل على العكس، تكون الإسكندرية “مقياس حرارة” للتغيرات الكبرى القادمة من الشمال.
المستقبل: هل أصبحت الإسكندرية على حافة اضطراب دائم؟
وفقًا للنماذج المناخية الحديثة، فإن حوادث الطقس القصوى في منطقة المتوسط ستتضاعف خلال العقد القادم، مع ارتفاع معدل العواصف غير الموسمية. ومدينة الإسكندرية ستكون في عين هذه العاصفة نظراً لموقعها المكشوف، وضعف بنيتها التحتية لمقاومة الكوارث المناخية. التحذير الأهم ليس من الثلوج بقدر ما هو من “ارتفاع منسوب البحر”، الذي قد يبتلع أجزاء من المدينة الساحلية بحلول 2050، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة.
محطات تاريخية في جنون الطقس السكندري
عاصفة 1954: سجلت فيها المدينة أسوأ موجة أمطار أغرقت شوارعها لأيام.
نوة الفيضة الكبرى 1992: عطلت حركة الموانئ لأكثر من أسبوع.
عاصفة ديسمبر 2015: شهدت تساقط برد كثيف وانهيار أجزاء من الكورنيش.
مايو 2025: لأول مرة منذ 100 عام، تسجل الإسكندرية تساقطًا للثلوج في فصل الصيف، ما يفتح بابًا جديدًا لفهم “جنون المناخ”.
ما جرى في الإسكندرية ليس “حادثة طقس”، بل ناقوس خطر. الأرض تتغير، والمناخ ينفلت من أطره التقليدية، والبحر بدأ يطرق أبواب المدن الساحلية بأساليب جديدة. الإسكندرية، عروس البحر المتوسط، لم تعد فقط في خطر الزلازل أو المد البحري، بل أصبحت شاهدًا حيًا على اضطراب المناخ العالمي… فهل نحن مستعدون؟
هذا التقرير لا يهدف إلى إثارة القلق، بل إلى التحذير العلمي الهادئ بأن المناخ لم يعد “نمطًا يمكن التنبؤ به”، بل أصبح “متغيرًا لا يرحم من يتجاهله”.