
تتحدث الروبوتات لهجة أمك؟ الذكاء الاصطناعي في سباق مع الزمن لإنقاذ تراث العرب المنسي
في قرية نائية على سفوح جبال ظفار، جلست “أم سليمان” أمام جهاز صغير غريب الشكل. ثمانون عاماً من الحكايات تختزنها ذاكرتها، ثمانون عاماً من كلمات لم تُسجَّل في قاموس. طلب منها الشاب أن تحكي حكاية تعرفها جيداً… فتحدثت. وسُجلت لهجة لم تُسجَّل من قبل، كأنها أصوات من عالم آخذ في الانقراض.
بينما تتحدث “أم سليمان” بلهجتها الظفارية الأصيلة، لا تدرك أن كلماتها تتحول إلى سلاسل من الأرقام، تُغذي خوارزميات معقدة، وتشكّل نواة لمستقبل قد تتحدث فيه الآلات بلهجة لا يتقنها سوى عشرات من البشر.
“أونجا كُري”… كلمتان تختزلان الهوية في حروف معدودة، تعنيان “أنا نوبي”، وتحملان في طياتهما إرثاً حضارياً يمتد لسبعة آلاف عام. لغة تتجاوز حدود النطق إلى فضاءات الغناء، تُورَّث عبر ألحان تترنم بها الأجيال، لم تُكتب على الورق، لكنها تُفهم بوجدان القلب، لا بقواميس اللغويين.
قالت بصوت حزين: “آكي بِلِّي فِي كينزي، نجي أونجودو فِكّي” — “أنا وُلدت نوبية، وسأرحل نوبية”.
اللغة خيط سري يربط الإنسان بجذوره، بزمانه ومكانه، وبسلسلة أسلافه الممتدة في أعماق التاريخ، هي وعاء للذاكرة الجمعية. وعندما تندثر لهجة ما، نفقد رؤية متفردة للوجود، وطريقة فريدة في فهم العالم وإدراكه. فكل لهجة تتوارى خلف ستار النسيان، تأخذ معها منظوراً مختلفاً للكون، وأسلوباً متميزاً في تفسير ألغازه.
تتسارع وتيرة العولمة، وتُستبدل اللهجات المحلية بلغة مُبسطة موحدة، يسابق الذكاء الاصطناعي الزمن لحفظ ما عجزت عنه المؤسسات الثقافية العربية طوال عقود. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكون الحارس الأخير لتراثنا اللفظي؟ أم أنه سيُعيد تشكيله على طريقته، ليصبح مجرد محاكاة باردة لأصوات دافئة؟
لهجات تموت بصمت
كل أسبوعين، تختفي لغة من على وجه الأرض. هذا ما تؤكده منظمة اليونسكو في تقريرها الأخير عن “أطلس اللغات المهددة بالانقراض”. وإذا كان هذا هو حال اللغات الرسمية، فما بالك باللهجات التي لا تحظى بأي اعتراف رسمي؟
في الوطن العربي وحده، تتعايش أكثر من 100 لهجة محلية بدرجات متفاوتة من الخطر، 37 منها مصنفة بأنها “مهددة بشدة”، و12 لهجة لا يتحدث بها سوى أقل من 50 شخصاً من كبار السن، وهي على وشك الاختفاء التام.
“اللهجة الشحرية” في جنوب عُمان، “الحسانية” في موريتانيا والصحراء الغربية، “الحوْيتية” في شمال السعودية، “النوبية القديمة” في صعيد مصر… كلها أصوات تترنح على حافة النسيان، تحمل في طياتها مفردات وتراكيب قد لا نعثر عليها في أي قاموس حديث.
“جدتي تتحدث الشاوية بطلاقة، أمي تفهمها بصعوبة، أما أنا فلا أفهم سوى بضع كلمات”، هكذا يصف كريم، شاب من الأوراس الجزائرية، مأساة ثقافية تتكرر في كل بقاع العالم العربي. ففي كل جيل، تضعف الصلة بين الإنسان وجذوره اللغوية، حتى تصبح اللهجات المحلية غريبة في أوطانها.
في السودان، تختفي لهجات محلية مثل “البيجاوية” و”التبوية” تحت ضغط التمدّن وهيمنة العربية الفصحى والعامية الخرطومية. وفي المغرب العربي، تنحسر اللهجات الأمازيغية القديمة أمام زحف العربية الدارجة والفرنسية.
من الصوت إلى البيانات.. كيف تتحول اللهجات إلى أرقام؟
وسط هذا المشهد القاتم، تلوح في الأفق مبادرات تكنولوجية طموحة تسعى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث اللغوي العربي.
مشاريع عربية رائدة
“لسان” (السعودية): مبادرة أطلقتها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية عام 2023، تهدف إلى توثيق وحفظ اللهجات المحلية في المملكة العربية السعودية. المشروع تمكّن حتى الآن من جمع أكثر من 3000 ساعة تسجيل صوتي من 17 لهجة محلية، وقام بتدريب نموذج ذكاء اصطناعي قادر على التعرف على اللهجة الحجازية والنجدية والقصيمية بدقة تصل إلى 87%.
“حروف” (الإمارات): مشروع إماراتي بدأ في أبوظبي عام 2022، يركز على بناء قاعدة بيانات ضخمة للهجات الخليجية، بالتعاون مع جامعة خليفة ومعهد اللغويات في جامعة نيويورك أبوظبي. المشروع طور تطبيقات تعليمية موجهة للأطفال، تساعدهم على تعلم اللهجة المحلية جنباً إلى جنب مع الفصحى، كما وضع أسس منصة لمساعدة الباحثين في اللسانيات على دراسة التطور التاريخي للهجات الإماراتية.
كيف تُحفظ اللهجة؟
عملية حفظ اللهجات وتحويلها إلى نماذج رقمية تمر بمراحل متعددة، تجمع بين العمل الميداني والتقني:
التسجيل الصوتي: فرق من اللغويين والتقنيين تنتقل إلى المناطق النائية، تبحث عن المتحدثين الأصليين بلهجات معينة. يُجرون معهم حوارات طويلة، يسجلونها بتقنيات عالية الجودة، في بيئاتهم الطبيعية لضمان عفوية التعبير. “أصعب مرحلة هي كسب ثقة المتحدثين”، كما يقول الدكتور عبد الله الصالح، مدير مشروع “لسان”. “فكثير من كبار السن يترددون في التحدث أمام أجهزة التسجيل، أو يتحولون إلى لهجة أخرى أكثر ‘رسمية’ عندما يشعرون بأنهم مسجلون”.
تفريغ وتصنيف البيانات:
تُحوَّل التسجيلات إلى نصوص مكتوبة، مع ضبط النطق وشرح المفردات الغريبة. ثم تُصنف هذه المفردات وفق حقول دلالية (البيئة، الطعام، العلاقات الاجتماعية…) وسياقات استخدامها.
تدريب النماذج: تُغذى هذه البيانات إلى نماذج الذكاء الاصطناعي، لتتعلم الآلة كيفية فهم اللهجة والتنبؤ بها. “النموذج يحتاج لآلاف الساعات من التسجيلات ليتقن لهجة واحدة”، كما توضح المهندسة سارة المنصوري من مشروع “حروف”. “وكلما كانت اللهجة نادرة، ازدادت صعوبة العثور على كمية كافية من البيانات”.
الاختبار والتحسين:
يُختبر النموذج على متحدثين أصليين، لقياس دقته وطبيعية أدائه. وتُجرى عليه تحسينات متتالية حتى يصل إلى مستوى مقبول من الإتقان.
ماذا بعد الحفظ؟
بمجرد أن يتم تدريب نموذج على لهجة معينة، تتعدد استخداماته المحتملة:
مساعدون صوتيون محليون: تخيل أن تتحدث مع هاتفك بلهجتك المحلية، وأن يردّ عليك بنفس اللهجة. هذا ما تطمح إليه شركات التقنية العربية الناشئة مثل “كلام” و”صوتك”.
أدوات تعليمية للأجيال الجديدة:
تطبيقات وألعاب تفاعلية تساعد الأطفال على تعلم اللهجة المحلية بطريقة ممتعة، تحفظ التواصل بين الأجيال.
قواميس صوتية حية:
منصات تتيح للباحثين والمهتمين الاستماع إلى نطق الكلمات في سياقاتها الطبيعية، وتتبع أصولها وتطورها.
الطريق ليس مفروشاً بالكلمات
رغم إيجابية هذه المبادرات، إلا أن الطريق أمام حفظ اللهجات العربية ما زال محفوفاً بالتحديات، التقنية منها والثقافية.
تحديات تقنية:
صعوبة الوصول: كثير من المتحدثين الأصليين يعيشون في مناطق نائية، أو لا يملكون وسائل اتصال حديثة.
محدودية البيانات:
التسجيلات الطويلة والطبيعية نادرة، خصوصاً للهجات المهددة بالانقراض.
خصوصية اللهجات العربية: معظم تقنيات الذكاء الاصطناعي مصممة للغات الغربية، والتي تختلف جذرياً عن اللغة العربية من حيث التركيب والصوتيات.
اللهجات غير المكتوبة: كثير من اللهجات العربية لا تُكتب، أو ليس لها قواعد إملائية موحدة، مما يصعّب عملية تحويلها إلى نصوص.
تحديات أخلاقية وثقافية:
من يمتلك البيانات؟:
هل يمتلك الباحث تسجيلات اللهجة التي جمعها، أم المتحدثون الأصليون، أم المؤسسة الممولة للمشروع؟
الاستخدامات التجارية والأمنية:
هل ستُستخدم هذه البيانات الصوتية في تطبيقات تجارية تدر أرباحاً لا يستفيد منها أصحاب اللهجة؟ وهل يمكن استخدامها في أنظمة مراقبة أو تحديد هوية المتحدثين؟
التشويه المحتمل:
هل سيؤدي تحويل اللهجة من وعاء ثقافي حي إلى خوارزمية إلى تشويهها أو تجريدها من سياقاتها الإنسانية؟
“أخشى أن تتحول اللهجات إلى مجرد سلعة رقمية”، هكذا يعبر الدكتور مصطفى الأنصاري، أستاذ اللسانيات في جامعة تونس، عن قلقه. “نحن بحاجة إلى حفظ اللهجة كظاهرة ثقافية متكاملة، وليس فقط كأصوات وكلمات”.
أصوات من الأرض.. شهادات حية
الباحث اللغوي.. بين التوثيق والتجسيد
“هناك فرق بين توثيق اللهجة وتجسيدها”، يقول الدكتور يوسف المطيري، اللغوي المتخصص في لهجات شبه الجزيرة العربية. “التوثيق يعني جمع المفردات وتسجيل الأصوات، أما التجسيد فيعني إحياء اللهجة كوعاء ثقافي حي، يحمل قيماً وتصورات وطرائق في التفكير”.
ويضيف المطيري: “عندما أسمع كلمة ‘مِغْلاَق’ في لهجة جنوب الجزيرة، لا أسمع فقط مرادفاً لكلمة ‘مفتاح’، بل أسمع فيها صدى لتاريخ كامل من العلاقة مع المكان والبيئة. هذا ما أخشى أن يضيع في عملية الرقمنة”.
المطوّرة التقنية.. العمل الميداني والأمل الرقمي
“عندما بدأنا العمل الميداني في قرى جبال الحجر، واجهنا صعوبات جمة”، تروي ريم الهاشمي، مطورة برمجيات في مشروع “حروف”. “كان علينا أولاً كسب ثقة الناس، ثم إقناعهم بأهمية ما نقوم به”.
وتضيف: “أتذكر عندما سجلنا مع إحدى المسنات أغنية مهد قديمة، كانت تغنيها لأحفادها. بعد ستة أشهر من العمل، عرضنا عليها نسخة من صوتها تم إعادة إنتاجه بواسطة الذكاء الاصطناعي. دمعت عيناها وقالت: ‘هذا صوتي سيبقى بعدي’. تلك اللحظة كانت كفيلة بتذكيرنا بقيمة ما نقوم به”.
المواطن الذي يتحدث لهجة مهددة.. خسارة وحنين
“كلما سافرت إلى المدينة، أشعر بأنني أخسر جزءاً من هويتي”، يقول سالم البلوشي (67 عاماً) من منطقة مسندم العُمانية. “أتحدث لهجة لا يفهمها الكثيرون، لهجة فيها كلمات من الفارسية والبلوشية والعربية. عندما أتحدث بها، أشعر بأنني أحمل إرث أجدادي”.
ويضيف بحسرة: “أبنائي يفهمون اللهجة، لكنهم لا يتحدثون بها. أحفادي لا يفهمونها أصلاً. قبل أن يأتي فريق التسجيل، كنت أخشى أن تموت معي. الآن على الأقل، يمكن لأحفادي أن يسمعوا كيف كان يتحدث أجدادهم”.
تخيل لو نجحنا.. مستقبل اللهجات الرقمية
تخيل أن تدخل متحفاً افتراضياً، ترتدي نظارات الواقع المعزز، لتستمع إلى لهجات اختفت من 100 عام. تتجول في أروقة افتراضية، تسمع قصصاً وأمثالاً وأغاني بلهجات من كل ركن من أركان العالم العربي. كل صوت يحمل تاريخاً، كل لهجة تنقل تجربة إنسانية فريدة.
تخيل تطبيقاً يستخدمه طفلك، يعلمه لهجة أجداده بجانب الفصحى، بطريقة ممتعة تجمع بين اللعب والتعلم. تخيل أن يعرف طفلك معنى كلمة “الزينة” في لهجة أهل عُمان، و”القايلة” في لهجة أهل الشام، و”البشكير” في لهجة أهل مصر.
تخيل مساعداً صوتياً يناديك باسمك، ويتحدث معك بلهجتك، كما كانت تفعل جدتك. يفهم تعبيراتك المحلية، ويستخدم أمثالك الشعبية، ويتفاعل مع خصوصية ثقافتك.
في السياق العالمي، تبدو هذه الرؤية أقرب إلى الواقع مما نتخيل. فمشروع “Wikitongues” العالمي نجح في توثيق أكثر من 1000 لغة ولهجة من حول العالم. وأطلقت شركة أمازون مبادرة للحفاظ على لغات السكان الأصليين في البرازيل، من خلال تدريب مساعدها الصوتي “أليكسا” على التحدث بتلك اللغات.
وفي ويلز، تعاونت جوجل مع الحكومة المحلية لإدراج اللغة الويلزية ضمن خدمات الترجمة والمساعد الصوتي، مما أسهم في إحياء لغة كانت على وشك الانقراض.
في زمن تتحدث فيه الآلة كل اللغات، هل ستُسمع لهجتك؟
نقف اليوم على مفترق طرق تاريخي. إما أن نترك لهجاتنا المحلية تذوب في بحر العولمة، أو نستثمر في التكنولوجيا لإنقاذها وإعادة إحيائها.
ما يحدث في العالم العربي اليوم هو سباق مع الزمن. سباق بين موت المتحدثين الأصليين، وتطور الذكاء الاصطناعي. كل شيخ يرحل، يأخذ معه كنزاً لغوياً لا يقدر بثمن. وكل تسجيل صوتي يُحفظ، يشكل قطعة صغيرة في فسيفساء الهوية العربية.
“لن تكون اللهجة حية حقاً إلا إذا استمر الناس في التحدث بها”، يقول الدكتور طارق الصايغ، مدير مبادرة “كلمات لا تموت”. “لكن حتى لو توقفت عن أن تكون لغة تواصل يومي، يمكن أن تستمر كجزء من الذاكرة الثقافية الجماعية. والتكنولوجيا تتيح لنا أن نحفظها بشكل لم يكن متاحاً من قبل”.
فهل ستسمع الأجيال القادمة صوت جدتك؟ هل ستتحدث الروبوتات لهجة أمك؟ الإجابة تعتمد على ما نفعله اليوم.
شارك بصوتك. لا تضحك على لهجتك، فهي قصيدة أجدادك. ولا تدعها تضيع في زحمة العصر، فقد تكون أثمن ما تورثه لأحفادك.