
ينفتح للقارئ باب إلى عالم تتراقص فيه الحروف على أنغام التصوّف والحب، رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية إليف شافاق، رحلة روحية عميقة تأخذنا إلى سماوات أثيرية من المعاني، منذ الصفحات الأولى تهمس السطور بلغة شاعريّة آسرة: «وعندما تلج دائرة الحب، تكون اللغة التي نعرفها قد عفا عليها الزمان، فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات لا يمكن إدراكه إلا بالصمت»
بهذه النغمة التأملية تمهد شافاق الطريق أمامنا، داعيةً إيّانا إلى خلع نعال المنطق على أعتاب محراب العشق والإصغاء لصمت القلوب، حيث تبدأ تجربة قراءة تغوص في أعماق النفس بحثًا عن الحقيقة والحب.
خلفية عن الكاتبة إليف شافاق
خلف كل عمل أدبي عظيم روحٌ مبدعة ترفرف في أفق الكلمات، وفي حالة قواعد العشق الأربعون تتجلى روح الكاتبة التركية البريطانية إليف شافاق، التي نسجت بخيوط ثقافتها المتعددة وأفكارها الجريئة هذه الرواية الفريدة، ولدت شافاق عام 1971 في مدينة ستراسبورغ الفرنسية لأبٍ فيلسوف وأمٍ دبلوماسية، ونشأت متنقلةً بين عواصم مختلفة من أوروبا والشرق الأوسط مثل أنقرة ومدريد وعَمّان وإسطنبول، هذا التنقل وغنى التجارب أكسبها منظورًا عالميًا متعدد الثقافات انعكس بوضوح في كتاباتها، اختارت اسم عائلتها الأدبي “شافاق” (ومعناه بالتركية: الفجر) تيمّنًا باسم والدتها، ليصبح هذا الاسم علامة مضيئة في سماء الأدب المعاصر.
حصلت إليف شافاق على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والدراسات الإنسانيّة، ودرّست كمحاضِرة في جامعات بتركيا والولايات المتحدة، تكتب رواياتها باللغتين التركية والإنجليزية، وقد تُرجمت أعمالها إلى أكثر من 45 لغة، مما جعلها واحدة من أشهر الروائيات التركيات عالميًا، تناولت في رواياتها قضايا متنوعة تمتد من التصوف والفلسفة الروحية إلى مسائل الهوية والمرأة والتاريخ والصراعات الثقافية، ورغم غزارة إنتاجها الأدبي، تبقى «قواعد العشق الأربعون» الرواية الأبرز التي أوصلت شهرتها إلى الآفاق؛ إذ حققت مبيعات ضخمة وتربعت على قوائم الكتب الأكثر قراءة، حيث بيع منها نحو 750 ألف نسخة، وترجمت إلى عشرات اللغات، بهذا العمل، ثبتت شافاق أقدامها ككاتبة تمتلك قدرة فريدة على مد جسور بين الشرق والغرب عبر رواية تمزج بين الواقعي والصوفي في قالب أدبي آسر.
فكرة الرواية
تنسج إليف شافاق في قواعد العشق الأربعون حكايتين متوازيتين يفصل بينهما سبعة قرون، وتجمعهما روح واحدة تتغلغل في الزمان والمكان، في الزمن المعاصر (سنة 2008) نلتقي بـإيلا روبنشتاين، امرأة أميركية في أواخر الثلاثينات من عمرها تعيش حياة تبدو هانئة ومكتملة ظاهريًا
أسرة مستقرة، منزل جميل، وزوج ناجح. لكن خلف ستار هذا الرغد المادي يختبئ فراغ عاطفي وروحي؛ إيلا تشعر أنها تعيش حياة باهتة بلا شغف، تحصل إيلا على وظيفة في دار نشر، وأول مهامها تقييم رواية جديدة بعنوان «تجديف عذب» (أو “Sweet Blasphemy” في نسختها الأصلية) كتبها روائي صوفي مجهول يدعى عزيز زاهارا. منذ اللحظة التي تبدأ فيها قراءة تلك الرواية المخطوطة، تبدأ حياة إيلا بالتغيّر بهدوء ودون ضجيج؛ إذ تسحرها قصة البحث عن الحب الصوفي بين دفتي الكتاب، وتجد صدى غامضًا يتسلل إلى روحها التوّاقة للتغيير.
على الجانب الآخر من الرواية، ننغمس في القرن الثالث عشر الميلادي لنشهد حكاية تاريخية أخاذة، لقاء مولانا جلال الدين الرومي، العالم والفقيه والشاعر الفارسي الشهير، بالدرويش الجوال شمس الدين التبريزي في مدينة قونية، هذه الحكاية داخل الحكاية يكتبها عزيز زاهارا في روايته، وتقرأها إيلا بشغف، نتابع كيف خرج الرومي من دائرة التصوف النظري والوعظ إلى آفاق العشق الإلهي الرحبة على يد معلمه غير التقليدي شمس، تدريجيًا، تتشابك خطوط الزمنين في ذهن القارئ؛ فبينما نرى شمس التبريزي يقلب عالم الرومي رأسًا على عقب ويعيد تشكيل رؤيته للحياة والله، نرى بالتوازي إيلا وهي تتبادل الرسائل الإلكترونية مع عزيز الكاتب الغامض، لتجد أن كلماته بدأت تقلب عالمها الخاص وتدفعها لمراجعة كل قناعاتها، تدرك إيلا أن قصة الرومي تعكس قصتها الذاتية بشكل ما، وأن عزيز ظهر في حياتها كما ظهر شمس في حياة الرومي ليريها طريقًا جديدًا للحرية الداخلية، هكذا، دون إفشاء للأحداث، تقدم الرواية فكرة عميقة مفادها أن الحب – سواء تجلّى في القرن الثالث عشر أو الحادي والعشرين – هو قوة تحويلية قادرة على بعث الحياة في الأرواح المتعطشة للمعنى، وأن رحلة العشق الروحي تتكرر بأشكال مختلفة عبر العصور.
القواعد الصوفية في الرواية
تزخر الرواية بحِكَم وإشراقات صوفية عميقة تجري على لسان شمس التبريزي ضمن ما يسميه “قواعد العشق الأربعون”، هذه القواعد الأربعون أشبه ببوصلة روحية تهدي الشخصيات – والقارئ أيضًا – في دروب العشق الإلهي والإنساني على السواء، كل قاعدة منها هي درس في الحب والتسامح والإيمان، تستلهم جوهر التصوف الذي يقوم على تجاوز السطح إلى اللب، فيما يلي بعض من أهم هذه القواعد الصوفية كما وردت في النص، مع تحليل معانيها:
- التسامح وسعة الصدر:«لاتحكمعلىالطريقةالتييتواصلبهاالناسمعالله؛فكلإنسانلهطريقتهوصلاتهالخاصة، إنَّاللهلايؤاخذناعلىكلماتنا،بلينظرفيأعماققلوبنا. فليستالمناسكوالطقوسماتجعلنامؤمنين،بلصفاءالقلوب.» – تؤكد هذه القاعدة على عدم إصدار الأحكام على الآخرين في مسألة إيمانهم وعلاقتهم بالخالق. فطرق الوصول إلى الله متعددة بقدر تعدد البشر، والمهم هو صدق النية ونقاء القلب لا المظاهر والشكليات، إن شمس هنا يدعو إلى التسامح الديني والتقبل، وهو جوهر التصوف الذي يرى أن اللهحاضرفيقلوبالجميع مهما اختلفت صلاتهم وصوامعهم، هذه الحكمة تلقي بظلالها على أحداث الرواية؛ فالرومي نفسه تعلّم من شمس ألا ينكر على الناس طرقهم، بل ينظر إلى باطنهم حيث يقيم جوهر الإيمان.
- اتباع القلب بدل العقل:«إنالطريقإلىالحقيقةيمرُّعبرالقلبلاعبرالرأس. فاجعلقلبك،لاعقلك،دليلَكالرئيسي.» – هنا يلخّص شمس فلسفة صوفية عميقة، وهي أن الوصول إلى الحقيقة الإلهية والمعنى الأسمى لا يتم فقط عبر الجدل الفكري والعقل المجرد، بل عبر صفاء القلب والإلهام الروحي، فالعقل – رغم أهميته – قد يقف حائرًا أمام ألغاز الوجود، بينما القلب يُبصر بنور الحدس والمحبةما لا يراه العقل، هذه القاعدة تنعكس في تحوّل الرومي من عالم الدين والمنطق إلى عالم العشق والشعر؛ فبعد لقاء شمس بدأ يقيس الأمور ببصيرة القلب. وكذلك إيلا في العصر الحديث، قادها قلبها في نهاية المطاف لاتخاذ قرارات مصيرية غيرت حياتها، متجاوزةً الحسابات العقلانية البحتة.
- الأمل وعدم اليأس من رحمة الله:«مهماحدثفيحياتك،ومهمابدتالأشياءمزعجة،فلاتدخلربوعاليأس، وحتىلوظلّتجميعالأبوابموصدة،فإناللهسيفتحدربًاجديدًالك.» – يحملنا شمس بهذه الكلمات إلى جوهر الإيمان العميق بالقضاء الجميل والأمل. إنها دعوة صريحة لعدم الاستسلام لظلمة اليأس مهما تكاثفت المحن، فهناك دومًا باب مفتوح في مكان ما، وبصيص نور يقود إلى مخرج ورحمة، ينطبق ذلك حرفيًا على مسار الرواية، فشخصياتها تواجه أزمات روحية ونفسية خانقة، سواء الرومي الذي واجه رفض المجتمع وتزلزل إيمانه التقليدي، أو إيلا التي شعرت بفراغ معتم في روحها، لكن كليهما وجد دربًا جديدًافُتح، الرومي وجد نور شمس يُبدد عتمته، وإيلا وجدت في كلمات عزيز حبًا ومعنى أعادا لها الحياة. القاعدة هنا تُذكّر القارئ أيضًا بأن الفجر يولد من قلب الظلام، وبأن رحمة الله أقرب مما نظن بشرط ألا نيأس.
- الحب الحقيقي يشمل البشر جميعًا:«منالسهلأنتحبَّإلهًاكاملًانقيًامعصومًا… لكنالأصعبمنذلكأنتحبَّإخوتكمنالبشربكلنقائصهموعيوبهم.» – ربما هذه من أعظم قواعد العشق التي ينادي بها شمس التبريزي، فحب الله أمره هيّن على القلب المؤمن، إذ الله كامل الجمال والكمال، لكن التحدي الحقيقي للعاشق الصوفي هو أن يحب البشر الآخرين بكل ما فيهم من نقص وأخطاء، أن يرى نور الله في كل إنسانمهما كانت عيوبه، هذه النظرة المتسامية تعلّم الرومي معنى محبةالخلقمنمحبةالخالق، فراح يفتح قلبه لجميع من حوله بلا حكم أو شروط، حتى للهامشيين والمنبوذين في مجتمعه. وفي الرواية نجد صدى ذلك في علاقة عزيز مع العالم؛ فهو يجوب الأرض ناشرًا رسالة الحب الشامل، وفي حياة إيلا التي دفعها العشق إلى تغيير نظرتها لعائلتها ومن حولها بقدر أكبر من التفهم والرحمة.
هذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض الحكم الأربعين التي بثّتها إليف شافاق على لسان شمس في الرواية، كل قاعدة من تلك القواعد تعمل كنجمة هادية في سماء السرد؛ ترشد الشخصيات – والقارئ معها – إلى تجاوز حدود الأنا والأنانية، والتسامي إلى عالم تتحد فيه القلوب بمحبة خالصة، في نهاية المطاف، تشكّل قواعد العشق الأربعون بمجموعها مانيفستو صوفيًا يرى أن الحب جوهر الدين والحياة، وأنه الطريق الأقوم لاكتشاف الذات الإنسانيّة والله معًا.
الشخصيات الرئيسية ومعانيها الرمزية
اعتمدت شافاق في هذه الرواية شخصيات رئيسية تتمتع بعمق رمزي وروحي، تتجاوز كونها مجرد أفراد في حكاية تاريخية أو معاصرة لتغدو تجسيدًا لمعانٍ إنسانية كونية، يتصدر المشهد ثنائي فريد في كل خط زمني للرواية، الرومي وشمس في الماضي، وإيلا وعزيز في الحاضر، من خلال هذين الثنائيين تتجلى ثيمات الرواية الروحية على نحو أخاذ.
في القرن الثالث عشر، يلمع نجم مولانا جلال الدين الرومي ومعلمه شمس الدين التبريزي كقطبين مغناطيسيين اجتذب أحدهما الآخر في رحلة روحية غيّرت مجرى التاريخ الأدبي والصوفي، يمثل الرومي رمز المريد أو الطالب الذي ظن أنه بلغ الغاية بعلمه الشرعي ومكانته المرموقة كواعظ وقاضٍ، فإذا به يكتشف عبر لقائه بشمس عالمًا جديدًا لم يكن يخطر له على بال، إن الرومي هنا هو القلب الباحث عن الحقيقة، الروح العطشى التي كان ينقصها شرارة العشق الإلهي، أما شمس التبريزي فيظهر كالشعلة المتوهجة أو الشمس الساطعة (واسمه شمس يحمل هذا المعنى) التي تحرق بنورها كل ما هو زائف وتكشف الجواهر الدفينة، شمس هو المرشد الروحي غير التقليدي؛ درويش جوال، جريء في كسره للقيود الاجتماعية، يحمل معه أربعين قاعدة للحب، ويقذف بها في بركة روح الرومي الراكدة فتحرك تموّجات لا تهدأ. من منظور رمزي، يجسّد شمس الإلهام الإلهي المتجسد في هيئة إنسان، تلك القوة الغامضة التي قد تدخل حياة المرء فجأة فتقلبها رأسًا على عقب وتحرره من أسر ذاته. وفي المقابل، يجسّد الرومي الإنسان القابل للتحول، القلب الذي حين ينفتح لنور العشق تتغير هويته جذريًا، فيتحوّل الفقيه إلى شاعر، والواعظ الرصين إلى محبٍ ناثرٍ للحكمة والقصائد، إن العلاقة بين الرومي وشمس في الرواية تمثل رمزًا لاتحاد الأرواح الساعية إلى الله، علاقة المعلم بالتلميذ، والصديق بصديقه، والحبيب بمحبوبه في آن واحد.
وعلى ضفة الزمن الأخرى، تقف إيلا روبنشتاين وعزيز زاهارا كمرآة معاصرة تعكس ذلك اللقاء الروحي القديم بصيغة جديدة، إيلا هي امرأة عادية في ظاهرها.
زوجة وأم تعيش حياة رتيبة في ولاية ماساتشوستس الأميركية، لكنها على المستوى الرمزي تمثل الروح الحديثة التائهة التي برغم رفاهيتها المادية تشعر بجوع عاطفي وروحي عميق، إيلا هي كل إنسان معاصر يبحث عن معنى في زحمة الحياة الاستهلاكية الرتيبة، عندما تبدأ قراءة مخطوطة عزيز وتنخرط في مراسلات معه، تنطلق في رحلة تحول لا تقل عمقًا عن رحلة الرومي قبل قرون، يقابلها عزيز زاهارا ليكون بمثابة شمس التبريزي الخاص بها، رجل صوفي رحّال، تركي الأصل، يحمل قلبًا مجروحًا وتجربة روحانية ثرية، قد كرّس حياته لنشر رسالة الحب والتسامح، عزيز في الرواية يرمز إلى صوت الحكمة الخفي الذي قد يأتيك من بعيد ليهز قناعاتك، فهو يجمع بين شخصية الكاتب الملهم والدرويش المتجدد، اللقاء بين إيلا وعزيز تتجاوز أبعاده مجرد إعجاب امرأة برجل غريب؛ إنه يمثل يقظة الروح النائمة بداخل إيلا، فكما جاء شمس ليوقظ الرومي من سباته الروحي، أتى عزيز ليوقظ قلب إيلا من سباته العاطفي. والمراسلات الإلكترونية بينهما ما هي إلا وسيلة حديثة لـ”صحبة روحية” تنمو شيئًا فشيئًا عبر الكلمات، لتبدل نظرة إيلا إلى نفسها وإلى العالم، إن الثنائية (رومي/شمس – إيلا/عزيز) تمثل عبر تباعد الزمن وحدة التجربة الإنسانية في البحث عن المطلق
حين يكون التلميذ مستعدًا يظهر المعلم، وحين يتفتح القلب يجد اليد التي تقوده نحو النور، هكذا جسّدت شافاق في شخصياتها الرئيسية معاني العطش الروحي والهداية والعشق بمعانيه المتعددة، فجاءت كل شخصية رمزًا حيًا يسير إلى جانب القارئ ويلقي درسًا بليغًا في رحلة السرد
جدير بالذكر أن الرواية لا تكتفي بهؤلاء الأبطال الرئيسيين، بل تزخر أيضًا بشخصيات ثانوية مرسومة بدقة، لكل منها دلالتها، نلتقي مثلًا في خط الرومي التاريخي بـوردة الصحراء (عاهرة تائبة تبحث عن الخلاص) وحسن (خادم الرومي المخلص)، وعلاء الدين ابن الرومي الغيور، وكيميا الابنة المتبناة ذات الروح البريئة، والزاهد المتعصب الذي يعادي شمسًا، كل من هذه الشخصيات تحمل رمزًا لحالة إنسانية أو روحية، التوبة، الإخلاص، الغيرة، البراءة، التعصب… مما يجعل مجتمع الرواية لوحة فسيفساء روحية تجتمع فيها أطياف النفس البشرية كافة، أما في خط إيلا المعاصر فهناك زوجها وابنتها وأبناؤها وأصدقاؤها، وحتى وإن بدت أدوارهم أقل وهجًا، لكنها تشكل المحيط الواقعي الذي تحاول إيلا التحرر منه أو التصالح معه، بهذا الغنى في الأشخاص ومعانيهم، تنجح شافاق في تحويل الرواية إلى متاهة من الرموز يستطيع القارئ أن يجد نفسه بينها ويتأمل من خلالها أسئلته الكبرى حول الإيمان والحب والمعنى.
تميّزت إليف شافاق بأسلوب سردي فريد يجمع بين التشويق الروائي والجمالية الشعرية، وقد تجلى هذا الأسلوب بوضوح في بنية قواعد العشق الأربعون، اعتمدت الكاتبة تقنية الحكاية الموازية أو الرواية داخل الرواية، حيث يتناوب سرد قصتين تفصل بينهما قرون ولكن تربطهما ثيمات مشتركة، يتنقل السرد بسلاسة بين خط زمن الحاضر (2008) مع إيلا وعالمها، وخط زمن الماضي (قونية في 1244م) مع الرومي وشمس، هذه البنية المزدوجة تضفي على الرواية إيقاعًا خاصًا؛ فكلما تعمقنا في أحد الخطين وبلغنا لحظة مفصلية، نقلتنا شافاق إلى الخط الآخر تاركةً إيانا في حالة تشوّق وترقب، هكذا تجد القارئ يلاحق خيوط القصتين بشغف، ينتظر معرفة مصير إيلا وعزيز، وفي الوقت نفسه يلهث وراء أحداث لقاء الرومي بشمس وما ستؤول إليه، هذا التناوب الزمني جعل البناء الروائي أقرب إلى نسيج موسيقي متعدد الطبقات، تتردد فيه تيمات الحب والخير والمعرفة كألحان تتفاعل فيما بينها.
إضافة إلى ذلك، استخدمت شافاق أسلوب تعدد الأصوات الروائية (البوليفونية) داخل كل خط زمن، فالرواية تتقسم إلى فصول قصيرة نسبيًا، يحمل كل فصل عنوانًا يشير إلى الشخصية الراوية أو محور الحدث. نسمع مثلًا صوت إيلا بضمير المتكلم حينًا، ثم صوت عزيز عبر رسائله الإلكترونية، ونسمع في الخط التاريخي صوت شمس وهو يروي حكمته، أو صوت الرومي وهو يناجي ربه في شعر، بل حتى شخصيات ثانوية من عصر الرومي – كوردة الصحراء أو علاء الدين ابن الرومي – تأخذ الكلمة في فصول خاصة بها لتروي زاويتها من القصة. هذا التنوع في زوايا الرؤية أثرا النص ومنحه عمقًا إنسانيًا، حيث يرى القارئ الحدث الواحد من وجوه متعددة ويتعرف إلى دواخل كل شخصية على حدة، كما أن استخدام رسائل البريد الإلكتروني كوسيط سردي بين إيلا وعزيز أدخل عنصرًا حداثيًا في بنية الحكاية، وجعلنا نشعر أحيانًا أننا نقرأ مراسلات صوفية معاصرة لا مجرد سرد تقليدي، إن المزج بين أسلوب الرسائل، والسرد بضمير المتكلم، والتنقل الزمني، منح الرواية بنية مرنة وحيوية تبعد عنها الملل وتقرّبها من نفس القارئ الذي يعيش في عصر السرعة وتعدد الوسائط.
أما لغة السرد وأسلوبه الفني، فقد جاءت في الترجمة العربية (الصادرة عن دار الآداب) عذبة ورشيقة تحافظ على روح النص الأصلي، تجمع شافاق بين البساطة والانسيابية في الحكي – مما يجعل الرواية سهلة القراءة ومتدفقة الأحداث – وبين الشاعرية العميقة في الكثير من المقاطع الحوارية والتأملية، عندما يتحدث شمس التبريزي أو يفكر الرومي، كثيرًا ما تتخذ اللغة نبرة أشبه بالخطاب الحكمي أو الشعري. تزخر الصفحات بعبارات تأملية يمكن للقارئ التوقف عندها طويلًا، كما لو كانت أبياتًا من شعر صوفي أو أقوالًا مأثورة من كتب الحكمة، على سبيل المثال، كثيرًا ما يمر بنا في الحوار مقطع يتأمل فيه شمس معنى الحب أو يشبه الحياة بمعان رمزية، فتأتي العبارة مكثفة بإيقاع موسيقي داخلي يلمس شغاف القلب، ولم تمنع هذه النزعة الشاعرية من أن يكون السرد سلسًا وواضحًا؛ فالأحداث تروى بترتيب منطقي رغم التنقل الزمني، والحبكة محبوكة بإتقان بحيث تتوازى قصتا إيلا والرومي دون ارتباك، قد يشعر القارئ لوهلة في بداية الرواية بكثرة الأسماء وتنوع الأصوات، لكن سرعان ما يعتاد هذا الأسلوب ويقدّره، إذ يدرك أن لوحة الفسيفساء السردية هذه مقصودة لتعكس فكرة تعدد سبل العشق ومعانيه.
اللافت أيضًا هو قدرة شافاق على الموازنة بين السرد الخارجي (الأحداث والحوار) والسرد الداخلي (خواطر الشخصيات وتأملاتها)، مشاهد اللقاءات والحوار مصوغة بحيوية تجعلنا نتخيل قونية القديمة أو بوسطن الحديثة وكأننا نراهما رأي العين. وفي الوقت نفسه، لحظات العزلة والتفكر – كخلوة الرومي مع نفسه، أو استغراق إيلا في قراءة رسالة عزيز – تأتي على شكل مونولوجات داخلية عميقة تكشف لنا تيارات الوعي لدى الشخصيات، هذه المزاوجة جعلت إيقاع الرواية متوازنًا، لا يطغى التشويق الخارجي على التأمل الفلسفي، ولا يغرق النص في الاستبطان النفسي على حساب حركة الحدث، باختصار، نجحت إليف شافاق في بناء نص سردي مرن يجمع بين حكمة التصوف ومتعة الرواية، بأسلوب يناسب حكاية تمتد جسورُها بين القرن الثالث عشر والواحد والعشرين دون نشاز.
رؤية نقدية.. نقاط القوة والضعف
حظيت رواية قواعد العشق الأربعون بإعجاب شريحة واسعة من القراء حول العالم لما فيها من مزيج فريد بين روحانية المحتوى وجمالية السرد، من أبرز نقاط القوة في هذا العمل قدرته على مخاطبة القارئ العادي والمثقف على حد سواء؛ فهي رواية عميقة الفكر لكن لغتها غير معقدة، مليئة بالحكمة ولكنها أيضًا مشوّقة وممتعة كحكاية حب، نجحت شافاق في رسم شخصيات تاريخية معقدة – مثل الرومي وشمس – من لحم ودم، وقامت بإنسنة التراث الصوفي وتقديمه في قالب قصصي محبب، هذا جعل القراء الذين ربما لم يقرأوا عن التصوف من قبل ينشدون للرواية ويتعاطفون مع أفكارها، كما أن البنية المزدوجة للقصة أضافت بعدًا دراميًا قويًا؛ فكشف التحولات الروحية في خطين زمنيين متوازيين أعطى القصة عمقًا وتشويقًا، ودعا القارئ لإجراء مقارنات وتأملات بين الماضي والحاضر بشكل تلقائي، كذلك تتميز الرواية بوفرة الاقتباسات الجميلة والعبارات المؤثرة التي تترك أثرًا طويل الأمد في ذهن القارئ، حتى أن الكثيرين مما قرأوها وجدوا أنفسهم يدونون تلك الحكم لاستعادتها والتأمل فيها لاحقًا، باختصار، قوة قواعد العشق الأربعون تكمن في روحانيتها الصادقة التي لا تعيق السرد، وفي سردها المشوّق الذي لا يفقد العمق الفلسفي – وهذا توازن صعب تحقيقه نجحت فيه شافاق ببراعة.
رغم ذلك، لا تخلو الرواية من نقاط ضعف أو مآخذ نقدية أشار إليها بعض النقاد والقراء. أبرز هذه الملاحظات تتعلق بالطابع التعليمي المباشر لبعض أجزاء النص؛ إذ رأى البعض أن إدراج الأربعين قاعدة بشكل صريح ضمن الحوارات جعل الرواية في لحظات معينة تبدو أشبه بكتاب وعظي أو دليل روحي أكثر منها رواية أدبية تظهر فيها الحكمة بصورة ضمنية، فالحكم الروحية تقدم أحيانًا جاهزة على لسان شمس التبريزي أو عزيز زاهارا بدل أن يستنبطها القارئ من خلال الفعل الدرامي، مما قد يشعر قارئًا معتادًا على الرمزية والتخييل بمباشرة زائدة، بالإضافة إلى ذلك، اعتبر بعض النقاد أن الحبكة المعاصرة الخاصة بإيلا لم تكن بقوة وجاذبية الحبكة التاريخية؛ إذ بدت شخصية إيلا ذاتها مرسومة ببراعة، لكن الشخصيات المحيطة بها (كزوجها وابنتها) ظهرت بشكل سطحي نسبيًا وأقرب إلى الصورة النمطية (الزوج الخائن المشغول، الابنة المراهقة المتمردة… إلخ)، فلم يرتبط القارئ بهم بنفس درجة ارتباطه بشخصيات القرن الثالث عشر، كذلك رأى البعض أن التحول الذي طرأ على إيلا – رغم جماليته – كان متوقعًا إلى حد ما، وأن عنصر المفاجأة في نهايات كلا القصتين ربما لم يكن قويًا كفاية أو جاء دون مستوى التوقع العاطفي لدى بعض القراء، من جهة أخرى، أثار الموضوع الذي تتناوله الرواية (التصوف الإسلامي) تساؤلات لدى بعض المعنيين بالتاريخ؛ حيث وجّهت انتقادات تتعلق بـالدقة التاريخية وتجاوز بعض الوقائع أو تكييف الشخصيات التاريخية لتخدم الحبكة. فمثلًا، شخصية شمس التبريزي الحقيقية تظل يكتنفها الغموض تاريخيًا، وقدّمتها شافاق بصورة روائية شبه مثالية ربما لا يتفق معها الباحث التاريخي بشكل كامل، بيد أن هذه الانتقادات تظل في نطاق الخلفية المعرفية، لأن الرواية في النهاية عمل تخييلي أدبي وليس بحثًا تاريخيًا.
في المحصلة، لم تؤثر هذه الملاحظات على القيمة الأدبية والشعبية للرواية بشكل يُذكر، فقد استطاعت قواعد العشق الأربعون أن تحقق معادلة صعبة بتقديمها محتوى روحانيًا عميقًا بقالب سردي جذاب يصل إلى مختلف شرائح القراء، ولعل بعض مواطن الضعف الطفيفة تغيب عن البال أمام سحر النص العام؛ فالقارئ يغفر أحيانًا مباشرية الحكمة لأنه يجد نفسه مأخوذًا بالعاطفة والصور الشعرية والرحلة الروحية التي خاضها عبر الصفحات، ويمكن القول إن رواية شافاق هذه نجحت حيث فشلت أعمال أخرى في نقل روح التصوف إلى رواية معاصرة دون ابتذال أو تعقيد زائد، إنها نص يفتح باب النقاش والتأمل، وربما هذا بحد ذاته أكبر نجاح أدبي – أن يستمر القراء في طرح الأسئلة والتفكير فيما أراد النص قوله حتى بعد إغلاق الكتاب.
في نهاية المطاف، «قواعد العشق الأربعون» تجربة تستقر في القلب وتترك أثراً مفعمًا بالتأمل، نتساءل بعد انتهائنا منها.
هل كانت هذه الصفحات مرآة لأنفسنا أيضًا؟ هل رأينا في رحلة إيلا وشمس والرومي شيئًا من رحلاتنا الداخلية؟ لقد شاركنا الشخصيات رقصة روحية عبر الزمن، ورأينا كيف يمكن لقطرة حب صافية أن تحرك تموجات لا حدود لها في نهر الحياة.
تغلق الكتاب وأنت محمّل بزخم من المشاعر والأفكار، قد أثقلتك الحكمة ولكن في الوقت نفسه خفّفت عنك أثقالًا كنت تحملها دون أن تدري
القلوب جميعها أبواب يقرعها العشق يومًا، وحين نفتحها، سنرى الكون كله مضاءً بنور الحب.